المقالات

الاستبداد (١)


 

محمد عبد الجبار الشبوط||

 

الاستبداد هو اعتداء مقصود على مركز الانسان في الكون، والقبول به هو تنازل طوعي من قبل الانسان عن هذا المركز الذي منحه الله له في الارض، وهو الخلافة، بموجب الاية التالية من القران الكريم: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً". وبموجب هذه الاية فان الانسان كائن حر مسؤول يملك حق تقرير مصيره ولا يحق لاي كان ان يتسلط عليه، ابتداءً. فالانسان يملك حق حكم نفسه بنفسه.

وهذا المركز قانون طبيعي، بمعنى انه ليس جعلا  تشريعيا يستند الى ارادة المشرع فقط (وان كان هذا صحيحا بنفسه)، انما هو مستمد من طبيعة الانسان وقدراته الذاتية، كما يُفهم من الاية التالية: "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" (الاحزاب 72). ويقول السيد محمد باقر الصدر في تفسير هذه الاية ان عرض الامانة (اي الخلافة)، على السماوات والارض والانسان انما عرض تكويني، كما ان رفضها من قبل السماوات والارض، وقبولها من قبل الانسان، تكوينيان. وهذا هو معنى القانون الطبيعي المستمد من طبيعة وتكوين الانسان، المتميز به عن تكوين السماوات والارض. ان الانسان بطبيعته او بفطرته مزود (من عقل وارادة وحرية الاختيار) بما يجعله قادرا على ان يتبوأ مركز الخلافة في الارض: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" (الروم 30) ويتأكد هذا المركز من خلال "التوحيد" الذي يعني اتباع الانسان للقيم العليا الحافة بعناصر المركب الحضاري والمستمدة اساسا من صفات الله.

المستبد يصادر هذا كله ويسحق الطبيعة الفطرية للانسان ويحرمه من سيادته على نفسه وعلى الارض. وينصب نفسه مكان الانسان في السيادة والحكم، ولذا فهو "طاغية"، اي تجاوز على ما ليس له. والسيادة ليست له وحده، انما هي لكل انسان.

القبول بالاستبداد تنازل من قبل الانسان السيد عن سيادته وحريته وارادته. انه قبول بعبودية الانسان لاخيه الانسان ، او هو "العبودية الطوعية"، كما يسميها الفرنسي ايتيان دو لا بويسي (١٥٣٠-١٥٦٣). والعبودية الطوعية او الاختيارية تمثل خللا حادا في المركب الحضاري للمجتمع وقيمه العليا. لان منظومة القيم العليا السليمة تقرر، بعد تثبيت مبدأ خلافة الانسان وسيادته وحقه في تقرير مصيره، ان افراد المجتمع متساوون فيما بينهم، ولا سلطة لاحد على احد الا بموجب القانون والاختيار. فالولاية العامة تسري بين الناس فردا فردا كما يقرر العلامة محمد حسين الطباطبائي والسيد محمد باقر الصدر استنادا الى الاية القرانية: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ". وهذا ما اقره جان جاك روسو  ( 1712 - 1778) في كتابه "العقد الاجتماعي" الصادر في عام ١٧٦٢ حيث يقول "ليس لانسان سلطة طبيعية على اقرانه." لكن الانسان، الحر الخليفة صاحب السيادة، قد يتنازل عن سيادته تحت ضغط الفقر والجهل والخرافة، وهي العناصر التي تصوغ "سيكولوجية الإنسان المقهور" بمصطلح الباحث اللبناني  مصطفى حجازي في كتابه "التخلف الاجتماعي" المنشور  عام 2001. الانسان المقهور مهزوم داخليا، ضعيف الشخصية، مسلوب الارادة، محكوم بالخوف، لم يذق طعم الحرية، وبالتالي يفقد الحساسية المضادة للاستبداد والممانعة الذاتية النفسية له. يفهم المتطلعون الى الاستبداد والاعلاميون الذين يعملون بخدمتهم هذه الحقيقة المرة فيعمدون الى اغراق المجتمع بصور الحاكم السائر في طريق الاستبداد، ويخفضون القدرة الشرائية للمواطنين، ويشيعون ثقافة التملق والخنوع، ويضيقون على اصحاب الفكر والرأي الحر، وتدريجيا يحجرون على عقول الناس لكي يطلقوا ايديهم في الحكم، مصداقا للاية: "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ".

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
almajahi : نحن السجناء السياسين في العراق نحتاج الى تدخلكم لاعادة حقوقنا المنصوص عليها في الدستور العراقي..والذي تم التصويت ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
جبارعبدالزهرة العبودي : لقد قتل النواصب في هذه المنطقة الكثير من الشيعة حيث كانوا ينصبون كمائنا على الطريق العام وياخذون ...
الموضوع :
حركة السفياني من بلاد الروم إلى العراق
ابو كرار : السلام عليكم احسنتم التوضيح وبارك الله في جهودكم ياليت تعطي معنى لكلمة سكوبس هل يوجد لها معنى ...
الموضوع :
وضحكوا علينا وقالوا النشر لايكون الا في سكوبس Scopus
ابو حسنين : شيخنا العزيز الله يحفظك ويخليك بهذا زمنا الاغبر اكو خطيب مؤهل ان يحمل فكر اسلامي محمدي وحسيني ...
الموضوع :
الشيخ جلال الدين الصغير يتحدث عن المنبر الحسيني ومسؤولية التصدي للغزو الفكري والحرب الناعمة على هويتنا الإسلامية
حسين عبد الكريم جعفر المقهوي : عني وعن والدي ووالدتي وأولادها واختي وأخي ...
الموضوع :
رسالة الى سيدتي زينب الكبرى
فيسبوك