محمد عبد الجبار الشبوط ||
الدعوة الى اقامة الدولة الحضارية الحديثة، في العراق او في اي بلد اخر، ليست مجرد امنية حالمة او فكرة طوباوية، على غرار جمهورية افلاطون او يوتوبيا توماس مور وغيرهما؛ انما هي كشف عن اتجاه تاريخي عام، ودعوة الى الاتساق مع هذا الاتجاه التاريخي، انها دعوة المجتمع العراقي، او اي مجتمع اخر، الى التحرك وفق الحركة التاريخية العامة، وليس على الضد منها، دعوة الى دخول التاريخ، وليس الخروج منه
تحكم حركة التاريخ البشري، منذ اللحظة التي وجد فيها الانسان العاقل على الارض، ثلاثة انواع من السنن او القوانين التاريخية، وهي:
النوع الاول، القوانين الشرطية، وهي تلك التي ترتبط فعاليتها في الساحة التاريخية بشرط اخر، مثل قانون التغيير الاجتماعي الذي يشير اليه القران الكريم بقوله: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ". ومؤداه ان حصول التغيير في البنى الفوقية للمجتمع مشروط بحصول التغيير في البنى التحتية للمجتمع.
النوع الثاني، السنن الحتمية، وهي القوانين الصارمة حتمية الوقوع التي لا يمكن ابطالها، مثل قانون حتمية سقوط الانظمة الظالمة، الذي يشير اليه القران بقوله: "وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ".
النوع الثالث، الاتجاه التاريخي العام، وهو السنة التي تشكل ظاهرة تاريخية عامة يمكن ان يخرج مجتمع ما من دائرة تأثيرها لفترة من الزمن، لكنها تبقى مؤثرة في السير العام للمجتمعات البشرية الاخرى، مثل سنة التقدم المستمر او التطور التراكمي المتواصل، التي يشير اليها القران الكريم بقوله:"لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ".
ويعود الفضل في الكشف عن هذه الانواع من السنن التاريخية الى السيد محمد باقر الصدر في محاضراته حول "التفسير الموضوعي" للقران التي القاها على طلبته قبيل استشهاده على يد الطاغية صدام حسين. ونحن نعلم ان السقوط كان مصير النظام الظالم بفعل النوع الثاني من السنن، اي السنن الحتمية. ولا ننسى ان الكثير من الفلاسفة والمفكرين تحدثوا عن السنن او القوانين التاريخية، امثال ابن خلدون و كارل ماركس وارنولد توينبي، وغيرهم كثيرون؛ وان معرفتنا بهذه السنن هي بدورها معرفة تطورية تتكامل مع مرور الزمن.
الدولة الحضارية الحديثة مصطلح تم استحداثه للاشارة الى احدى قوانين التاريخ من النوع الثالث. ومفاده ان الدول تتطور وتتكامل بمرور الزمن. قد تقوم دولة هنا، وقد تسقط دولة هناك، لكن الخط البياني لسير الدول في المجتمع البشري العام يشير الى تكاملها ونموها وتطورها وتقدمها بصورة تراكمية. ويؤكد الاستقراء التاريخي هذه الحقيقة بملاحظة تطور الدول منذ نشأة اول دولة-مدينة في وادي الرافدين قبل الاف السنين الى اليوم. واذا كان هذا السير التكاملي قد انتكس في وادي الرافدين بسقوط الدولة الاشورية مثلا، في سنة ٦١٢ قبل الميلاد، فان هذا السير التكاملي للدولة عاود الظهور في اليونان بقيام دولة اثينا، التي سقطت بدورها، لينتقل الخط التكاملي الى روما، وقيام الامبراطورية الرومانية ثم سقوطها هي الاخرى في عام ٤٧٦ ميلادية، لتبدأ فترة العصور المظلمة في تاريخ تطور الدول والتي استمرت حوالي الف عام، ليعاود هذا الخط سيره التكاملي لبدء ظهور مفهوم الدولة الحديثة في اوروبا في عام ١٦٤٨ بتوقيع معاهدات ويستفاليا. واليوم نجد عددا ليس بالقليل من المجتمعات التي استطاعت ان تنخرط في المجرى العام لتكامل الدول، وانشأت دولها الحضارية الحديثة، على درجات مختلفة، كما في النرويج والدانمارك والسويد وهولندا والمانيا وسويسرا وبريطانيا والمانيا واليابان وماليزيا وسنغافورا ورواندا، التي قد تكون اخر الدول الداخلة في نادي الدول الحضارية الحديثة.وطبيعي ان نفترض ان هناك عوامل داخلية واخرى خارجية تؤثر على فرص المجتمع في السير في هذا الاتجاه التاريخي العام.
يتبع
ـــــــ
https://telegram.me/buratha