ضياء ابو معارج الدراجي ||
في عصر يوم ثلاثاء ما قبل شهر من بدأ الحرب على العراق عام ٢٠٠٣ تحديدا بداية الشهر الثاني شباط ونهاية العطلة الربيعية لطلبة المدارس والجامعات كنت جالس في حديقة دارنا مع والدي رحمة الله ووالدتي حفظها الله ونفر من اخوتي واخواتي واولادي واولاد اخي المتوفي حين طُرق باب الدار بقوة ،خرجت الوالدة ثم عادت لتقول ان الفرقة الحزبية بالباب تريد الحاج او احد اولاده البالغين.
خرجت مع ابي ورأيت الرفيق (س) واقف امام باب دارنا سلمنا عليه ثم قال يجب ان يتطوع احد افراد هذا البيت في قوات جيش القدس وعليه الحضور يوم غدا عصرا لتسجيل اسمه شاب كان ام عجوز وكان كلامه اشارة واضحة لي اذا لم تكن انت فوالدك لان باقي اخوتي لم يبلغوا السن القانونية .
كنت حينها محاضرا في الجامعة لذلك اتصلت بمقرر القسم الاستاذ (خ) وقلت له ان الفرقة الحزبية في المنطقة تريد مني التطوع في جيش القدس واريد كتاب من القسم لاعفائي كوني استاذا جامعيا.
لكن الاستاذ (خ) اخبرني بان الفرقة الحزبية في الجامعة طلبت من الاستاذة التطوع في جيش القدس اجباريا.
هنا فكرت مليا ان ذهبت ألى الجامعة ساكون ضمن فصيلها العسكرية ووالدي العجوز سيكون مجبرا على ان يكون فردا في فصيل المنطقة العسكري لذلك اخبرت مقرر القسم ان يبلغ فرقة الجامعة الحزبية ان فرقة المنطقة الحزبية قد ادرجتني كجندي ضمن فصيلها العسكري لجيش القدس.
في اليوم التالي ذهبت الى الفرقة الحزبية وسلمت نفسي وادرجت مجندي مشاة ضمن افراد جيش القدس للمنطقة وطلبت منهم ان يخاطبوا الفرقة الحزبية في الجامعة لاخبارهم بان تابع للمنطقة حفاظا على وظيفتي اولا وحماية لوالدي ثانيا من التطوع في جيش القدس.
لقد قضى فصيلنا العسكري ايام وليالي على السدة الفاصلة بين شارع بغداد كركوك ومنطقة قرية الانتصار في شمال شرق بغداد مقابل منطقة بوب الشام تحديدا منطقة العلوة.
كانت اسلحتنا التي وزعت علينا بدون عتاد وبدون قطعة الترباس التي كانت مهمة في عملية الاطلاق الناري ،كانوا يقولون لنا ان السلاح والعتاد في المخازن وعند حدوث اشتباك حقيقي سوف يوزع عليكم .
كانت الطائرات الامريكة تقصف مواقع قريبة منا كل ليلة تقريبا الا في الليالي سيئة الطقس ينعدم القصف تماما ،كنا نعلم ان قصة سلاح المخازن كذبة فلا سلاح ولا هم يحزنون وما نحن سوى اكباش فداء للتمويه وحماية الجيش النظامي العراقي وباقي اجهزة النظام القمعية من الاستهداف والقصف الجوي الامريكي حيث كان نشرنا في هذا المكان هو لغرض ارباك طيران التحالف الدولي الذي كان يرسم في الجو دوائر دخانية يكون مركزها هدفا للقصف التالي قبل نصف ساعة من القصف ومنه نعرف المكان الخطر لذلك نبتعد الى اماكن امنه لننجو بحياتنا .
رغم ان داري كانت قريبة وتقع في المنطقة المجاورة لمحل تواجد فصيلنا العسكري الى ان الهروب كان صعب جدا بسبب انتشار عناصر حزب البعث بين الازقة والشوارع في المنطقة الذين كانوا يعيدونا الى مواقعنا مكبلين ومغفورين في كل مرة لانهم يعرفوننا شكلا واسما كونهم من سكان المنطقة نفسها وبعد عدة محاولات فاشلة نجحت اخرها واستطعت ان اصل الى بيتي لكنه كان بيت اشباح خالي من العائلة الا من ورقة مكتوبة و ملصقة على زجاج سيارتي كُتب فيها عنوان المكان الذي توجهت له عائلتي في محافظة ديالى في قرية تدعى كركيشيا خلف قبر نبي الله دانيال ع عند احد اقاربنا من الدرجة العاشرة والذي اجهل موقعه تماما اما مفتاح السيارة فكان معلق خلف باب غرفتي في مكانه المعتاد ولم تكن هناك هواتف نقالة ولا وسيلة اتصال حتى توصلني بهم كانت حركتي تعتمد على الحدس والصدفة فقط.
دخلت الحمام وازلت الغبار والاطيان عن جسدي المتعب بماءٍ بارد ثم حملت معي سلاح الدار مع العتاد واخفيتهم داخل سيارتي وانطلقت بها عائدا الى مكان فصيلي العسكري لاركنها في كراج قريب من مستشفى حماد شهاب العسكري انتظر الفرصة السانحة للهرب واجتمع بعائلتي من جديد فلم اكن استطيع التوجه الى ديالى مباشرا بسبب انتشار سيطرات بعثية تفتش السيارات الخارجة من بغداد وتمنع الهاربين من المرور.
كان كل يوم يمر يزداد تذمر الجنود وكذلك يزداد يأس قيادات البعث المتسلطة علينا التي مُنحت رتبا عسكرية وهمية في حينها متدرجة حسب تدرجهم الحزبي من نقيب الى لواء ومع كشف زيف الاسلحة التي وزعت علينا اسلحة بدون عتاد ولا تعمل اصلا وكانت مخصصة للتدريب على السير والاستعراض فقط و مع انهيار الجيش في المحافظات الجنوبية وانسحابه الى الشمال عبر طريق بغداد كركوك وكثرة الهاربين والعوائل النازحة من جراء القصف والخوف انتهت تقريبا سيطرات التفتيش وعمت الفوضى في المعسكر لذلك تم نقلنا الى موقع قريب من منطقة محمد سكران شمالا تحديدا المنطقة الفاصلة بين بغداد وديالى قرب خزان الماء وقرب انتشار كتيبة دبابات اللواء العاشر حرس جمهوري والذي تعرض ليلا لقصف مباشر دمرت فيه كل قوته الضاربة واحرقت اغلب دبابات تي ٧٢ وفي تلك اللحظات واثناء الارتباك العسكري للجيش استطعت ان اقنع ثلاثة من اصدقائي بالهرب الى محافظة ديالى و خصوصا ان لديهم اقرباء هناك ويعرفون طريق مكان تواجد اهلي في قرية كركيشيا للنطلق احرار في سياراتي نحو بعقوبة التي تبعد ٥٠ كيلو متر عن مناطق القصف الامريكي
وبعد اجتياز بعقوبة وبمسيرة ساعة واحدة بعيدا عنها وصلتُ الى عائلتي في ديالى في قرية نائية ذات بيوت طينية والتي اتخذت من ساحة واسعة قرب نهر صغير مكان سكن لها حيث بنى ابي واخوتي لانفسهم بيوت من قصب و خيمة كانت لوالدي ليحتموا من الرياح والامطار مع سياج من اسلاك بي ار سي لحماية الأطفال من الحيوانات في تلك المنطقة الزراعية النائية.
فرحت العائلة بعثوري عليهم وارتسمت على وجوههم نسمة امل وارتياح لكني لم اجد ابي وامي واخبروني اخوتي واولاد عمي انهما قد ذهبا صباح هذا اليوم الى بغداد للبحث عني .
انزعجت كثرا لذلك ادرت محرك سيارتي وعدت فورا الى بغداد حيث وصلتها ليلا لاجد ابي وامي في دارنا والمنطقة كلها خاوي من البشر والسيارات وكانت فرحتهما عارمة جدا بدخولي عليهما لتمسح الدموع من اعينهم وخوفهم الشديد علية،وبعد ليلة طويلة من القصف والرعب حملت الوالدة في صندوق السيارة احتياجاتنا من ماء الشرب وطباخ غازي صغير وقنينة غاز للطبخ وكيس من الطحين وكيس من التمر وكيس رز مع صفيحة زيت وافرشة وادوية وضمادات وتوجهنا صباحا الى ديالى حيث مكان نزوح عائلتنا التي كانت خائفة ومرعوبة من عدم نجاتنا من القصف الجوي الذي حدث ليلة امس على بغداد.
مكثنا ليلتين في كركيشيا في طقس عاصف مترب توقف ليلة التاسع من نيسان .
كنا نحمل معنا تلفزيون صغير عادي يعمل على بطارية السيارة لا يلتقط سوى قناة العالم الايرانية الناطقة باللغة العربية بسبب انقطاع البث العراقي نتيجة القصف وانقطاع التيار الكهربائي ايضا.
شاهدنا على شاشةقناة العالم لحظة سقوط تمثال صدام في ساحة الفردوس ليلة ٩ نيسان لذلك قررت انا وابي العودة الى بغداد مع العائلة لان ديالى سوف تصبح ساحة حرب بعد سقوط بغداد وفعلا عدنا في صباح اليوم التالي وكان الطريق اطول بسبب القطوعات الترابية للجيش العراقي على طوال الطريق وعندما وصلنا الى منطقة الحديد وتقاطع بغداد بعقوبة تحول المشهد من جيش عراقي الى جيش امريكي وبدأت اول مناوشاتي الكلامية مع الجانب الأمريكي للمرور نحو بغداد بعد ان رفعنا العلم الابيض فوق سيارتنا والسيارة التي تحمل عوائلنا لندخل اخيرا الى منطقتنا التي اختلفت تماما عنها ما قبل مغادرتنا لها بانتشار مخيف لسيارات وصواريخ ارض-ارض و ارض-جو ومقاومات الطائرات ودبابات متروكة لندخل الى دارنا بعد عناء طويل دون خسائر بشرية لتبداء رحلتنا الجديد في التعامل الحذر مع قوات الاحتلال ومع الخراب الذي خلفته الحواسم من سرقات وحرائق وهروب البعثية وفدائيو صدام وحوادث القتل بين القوات المحتلة والمواطنين لسوء الفهم وعدم ادراك البعض من الناس للحالة الجديدة ومعنى حظر التجوال الليلي والنهاري و استخدام القوة المميتة لاي هدف بشري متحرك لا يلتزم بالاوامر العسكرية لقوات الاحتلال الامريكي .
ومن هناك بدأ مشوار ما بعد ٢٠٠٣ وهذا وحدة يحتاج مقال اخر طويل يروي أحداث سنة من الامان دون حكومة قبل ان تتغير نفوس الناس من اموال الحواسم الحرام ويبدأ السباق نحو السرقات الوطنية.