ضياء ابو معارج الدراجي
لا اعلم متى فهمت الحياة وكيف بدأت ذكرياتي الاولى فكل ما اذكره سريري الصغير المصنوع من الحديد وحزن شديد في دارنا البسيط على رضيعة قد ولدت بالأمس وماتت اليوم قالوا أنها أخت لي لتكون أول ذكرياتي حزينة كان ذلك صيف عام ١٩٧٦,كنت أخشى النوم وحدي حالي حال أي طفل صغير أخاف من الطنطل والسعلوة والأشباح واصوت القطط والكلاب التي كانت تكسر سكون الليل كنت احتضن أمي بخوف شديد حتى اشعر بالاطمئنان فنحن نعيش في منطقة نائية حديثة في أطراف بغداد لا تتجاوز البيوت فيها عدد أصابع اليد تمر بجوارنا ساقية ماء خلفها حقول خضراء تجمع الكثير من الحيوانات السائبة ,كانت بالنسبة الى عائلتي حياة عادية لأنهم من ريف ميسان وعلي الشرجي وعاشوا في أوضاع أسوء من ذلك أما أنا فلازلت طفل صغير لم أتجاوز الرابعة من العمر أخشى كل شي وأخاف من كل شي حتى من صوت السيارات التي كانت تمر على مسافات بعيدة من الدار ,كان لنا جار من أقربائنا يبعد مسافة عنا وكان والدي يأخذني معه كل يوم يتسامرون ويحكون القصص لأجد نفسي في الصباح نائم في سريري الحديدي في البيت ,في أحدى الليالي سمعت قصة من احدهم بان هناك نجمة ذات ذنب ستظهر في السماء من ينظر أليها يفقد البصر لذلك اعتراني خوف شديد من هذه النجمة وأصبحت أخشى النظر الى السماء في الليل وكنت عند النوم في فراشي على سطح الدار مع عائلتي صيفا انبطح على وجهي وأظل كذلك حتى الصباح خوفا من رؤية تلك النجمة حتى لا افقد بصري ،لم اكن اعرف الفرق بين النجوم والشهب فكان كل شهاب يسقط يعتبر كارثة بالنسبة لي وأقول لامي وأنا ابكي (يمة اني اشوف) هكذا أنا مرعوب دائما , في يوم احضر لي ابي اختراع جديد لم أشاهده في حياتي بالون احمر(نفاخة) مملوء بالهواء فرحت بها كثيرا وصرت العب معها في أرجاء بيتنا البسيط حتى انفجر في وجهي فصرخت مرتعباً واتجهت تحت السلم متقوقعا على نفسي وأنا أضع أصابعي في أذني اصرخ بهسترية فلم اسمع صوت مثله من قبل ليصبح ذلك الصوت والبالون كابوس يراودني في أحلامي طيلة سنوات طفولتي استيقظ وانا اركض في أرجاء الدار ليلا والكل يحاول ألامساك بي اصرخ (راح يطك راح يطك) مرت سنتان وأنا أصارع مخاوف الطفولة وذلك الكابوس اليومي المرعب مع البالون حتى دخلت المدرسة الابتدائية التي كانت بنايتها تبعد كيلو متر واحد عن بيتي كنت أشاهدها من البيت لكنها بعيدة بقياسي الطفولي أخذتني أمي اليها في اليوم الأول كان ذلك عام 1978 لأجد نساء يختلفن في لباسهن عن أمي فقد كانت أمي ترتدي الشيلة والعباءة السوداء أما تلك النساء فكن يرتدين تنانير قصيرة وقمصان ملونة وشعورهن ظاهرة ويضعن الالون على وجوههن كن متسلطات يصرخن في كل شخص ويضربن الاطفال في المدرسة المشاغبين منهم لتزداد مخاوفي خوفا أخر أصبحت أخشى المعلمة والمديرة وكنت اذهب الى المدرسة قبل الكل خوفا من أن أتأخر وأعاقب وكنت أنجز كل فروضي خوفا من العقاب لأجد نفسي الأول على الصف ما بين كل الطلاب، لقد أحبتني معلمتي وأصبحت تهديني الهدايا كلما ظهرت نتيجتي كأول على الصف رغم رث ملابسي التي كانت تختلف عن ملابس زملائي الأغنياء وفي يوم وأنا خارج من المدرسة تجمعوا علية زملائي في الصف وضربوني بشدة وقالوا باني لا انتمي أليهم وأهلي (شروكية) ليس كأهلهم الحضرية المهندسون والدكاترة والمعلمين فلماذا أنا متفوق عليهم وهم فاشلون ثم امروني بعدم الدوام و أن حضرت الى المدرسة سيضربونني بشدة , خفت وهربت الى البيت و وجهي عليه علامات المعركة وخدوش أظافر زملائي والدماء تسيل منها ،عندما شاهدت أمي حالي أخذتني في اليوم التالي الى المدرسة وأنا ابكي وأقول (ما اريد اروح يكتلوني يمة) دخلت أمي على المديرة فقابلتها المديرة بنفورة وقالت (شتردين) قالت لها (شوفي ابني شمسوين بيه الطلاب ليش هو شمسوي) قالت لها المديرة (يجوز هو وكح شمدريني) وهنا دخلت معلمتي الى الإدارة وعندما شاهدتني قالت (ليش اليوم غايب حبيبي) قالت لها امي (البارحه كتلوه الطلاب وخرمشو وجه) قالت المديرة للمعلمة (هذا شلونه) قالت معلمتي (هذا حبيبي اشطر واحد بالصف ) ثم قالت لي (تعال حبيبي من سوه بيك هيج) فقلت والدموع تنزل من عيني وبشهقة (فلان وفلان وفلان وكلولي اذا تجي بعد نكتلك) ذهبت المعلمة الى الصف وجمعت الطلاب وعاقبتهم أمامي وقالت (بعد أي واحد يحجي وياة اضربة 12 عودة) ,لم يتجرء بعد ذلك الحادث أن يتكلم معي احد بعنف من زملائي وأصبحت اهتم بدراستي بشكل جيد وأحببت درس الرسم الذي أصبح جزء من حياتي ارسم البيوت والأكواخ والزهور والسواقي، كانت أبي يحضر لي الألوان ودفاتر الرسم ,وفي يوم من الايام اعتلت الفرحة البيت فقد ولدت أمي لي شقيق واجتمع عندنا الأحبة والأقارب للتهنئة.
في هذه الفترة زاد عدد السكان في منطقتنا وازدادت عدد البيوت المبنية حتى أصبحت اغلب القطع الفارغة دور سكنية وكانت حياتي جميلة تنغصها بعض الأمراض التنفسية وإلم الأسنان والمعدة , حتى جاء اليوم المرعب في صيف عام 1980 عندما دوت الأنفجارات في كل مكان معلنة الحرب العراقية الإيرانية فهذه الأصوات أعلى وأرعب من صوت النفاخة الحمراء أضع أصابعي في أذني واصرخ وأشهاد أخي الصغير أيضا يصرخ لكنة صغير لا يعرف كيف يسد أذانه لذلك اسد أذانه بيدي لكن الصوت قوي ويرعبي فتراني أضع يدي مرة على أذني ومرة أخرى على أذني أخي الصغير ثم حملته وأنا ابن ألثمان سنوات وهو ابن السنتان ودخلت معه تحت أحدى مقاعد الدار الخشبية (القريولة) لنحتمي من تلك الكوارث والأصوات والانفجارت مشهد أرعبني بشدة كنا وحدنا في الدار فقد كان الأب في العمل والأم في السوق والاخ الاكبر خارج الدار مع أصدقاءه .
كنت أخشى صوت البالون المنفجر لكن ألان جاءت أصوات أقوى تهتز الأرض من تحت اقدامي من شدتها حتى أضحيت أخشى صوت صفارة الإنذار المتقطعة والطويلة التي كانت تعلن عن بدء او انتهاء الغارة الجوية ,ظلت الغارات الجوية والصواريخ مستمرة طيلة الأيام التالية بالإضافة الى صفارات الإنذار وأصوات المقاومات الجوية والعيارات النارية والتي كلما بداءت اتجه بلا وعي الى تحت المقعد في غرفة الاستقبال انا واخي ذو السنتان, بعد شهر جاءت مصيبتي الجديد عندما بدأت الدراسة لصبح يوم الخميس يوما أخشاه فكنا نحن الطلبة الأوائل نتسابق لنرفع العلم قبل الحرب لكن بعدها أصبحنا نهرب من هذه الفخر بسبب أطلاق النار من قبل منتسبي الدفاع المدني بقرب العلم عند رفعه فكانت أيادينا تترك الحبل لتتجه تلقائيا الى الأذن رعبا من صوت البندقية وكانت رائحة البارود تتدخل أنوفنا وأفواهنا ليسقط العلم على الأرض ونوبخ بسبب ذلك ونضرب بالعصي من قبل الإدارة كنا بأعمار مابين السادسة والثانية عشر فأي رعب كنا نعيشه في تلك الفترة واي حالة نفسية صعبه وضعنا بها نظام دموي وحزب عنده مظاهر الولاء اوجب من اي شيء وهم يحاولون اعدادنا لحرب قد تستمر لسنوات طوال حتى نصبح رجال ,في احد الأيام جاء خبر لولدي بأنهم احضروا فلان شهيد فذهب والدي مسرع خارج الدار قلت شهيد ما الشهيد كلمة أول مرة تطرق مسامعي فخرجت وراء والدي مسرعا اتبعه دون أن يعلم وأنا اركض كلما شاهدت احد أصدقائي أقول له ( تعال وراي نشوف الشهيد) فيقول لي (شنو شهيد) ويتبعني حتى تجمع معي أكثر أطفال المنطقة ونحن نتبع والدي الذي راح يهرول الى احد البيوت في المنطقة وعندما وصلنا الى ذلك البيت صُدمنا بوجود الكثير من الرجال والنساء والصراخ والعويل والدموع لم نعرف السبب لأننا لا نعرف ما الشهيد فدخلت الى دار الشهيد كون صاحب الدار احد أقربائي فسمح لي من في الباب بالدخول وطرد الأطفال الباقين حشرت نفسي بين الحشود من الرجال والنساء الباكين حتى وصلت الى صندوق خشبي ينام به شاب اعرفه يوجد في جبهته ثقب خرجت منه دماء متيبسة ولونه شاحب يرتدي بدلة عسكرية وحذاء عسكري ارتعبت جدا من المنظر وخرجت بسرعة من تلك الغرفة الخانقة وظل ذلك المشهد للشاب الميت يراودني في أحلامي فلم اتجرء بعدها على النظر الى أي جثة أخرى فقد عرفت معنى الشهيد,وخلال الأعوام الثمانية بعد تلك الحادثة توالت جنازات الشهداء من شباب المنطقة و رجالها وأصبحت معتاد على صوت العويل والنواح واللافتات السوداء على جدران بيوت الحي وانتهت طفولتي بعد انتهاء الحرب العراقية الايرانية عام ١٩٨٨ ليبدأ ماراثون المراهقة والشباب ولعبة القط الفار مع اجهزة النظام القمعي وحزبه الفاشي المتنمر ولذلك قصص وحكايات مأساوية اخرى يطول سردها.
https://telegram.me/buratha