المقالات

من ذاكرة الحصار الاقتصادي الأمريكي  ١٩٩٠-٢٠٠٣


ضياء ابو معارج الدراجي

 

في عمر الثالثة والعشرون عام اجلس وحدي بين ثنايا ممر ضيق يمر منه كل طلاب  الجامعة في دخولهم وخروجهم كنت ادخن سيجارة قد وصلت الى النصف افكر في حياتي بعد الجامعة ارتدي ملابس قد مضى على شرائي لها سنوات رافقتني طيلة اعوامي الخمسة التي قضيتها في الدراسة وهي نفس الاعوام التي بداء فيها الحصار عام ١٩٩٠  فقد كان الحال صعب والحصار اكل منا وشرب ولم تقر مذكرة التفاهم النفط مقابل الغذاء بعد رغم مرور خمس اعوام على الحصار المفروض على العراق نتيجة طيش نظام البعث الصدامي  بغزو الكويت، افكر في الخدمة الالزامية للجيش العراقي بعد التخرج من الجامعة والتي فرضت علينا وكيف اتخلص منها ، افكر في الهروب خارج العراق  ،كان امامي عده طرق اما  ايران او كردستان   لكن عائلتي سوف تتضرر من قمع البعث لو حدث واعتقلت اثناء الهرب ، اتفقت مع زميل لي من القومية الكردية كان يعيش في السليمانية ويدرس معي في بغداد ان نستخدم طريق كركوك ومنها الى دهوك وثم الى سوريا واليونان  لكي نستقر في المانيا كان الوضع جدا حرج والنظام قد سد كل المنافذ ولا سبيل للخلاص سوى الهروب او ان ازج في صراعات لا ناقة لي فيها ولا جمل صراعات مجنونة لحاكم مجنون وحياتي هي الثمن, وبينما انا غارق في افكاري مرتْ هي امامي بنظرات غريبة تنظر الي وحدي فقط وعينها تشع نور وحب ، في البداية لم اعرها انتباهي  وقلت في نفسي ربما كان عقلها شارد ربما كانت النظرات  لشخص ما في عقلها فانا لم اتكلم مع تلك الفتاة ولم نتقاطع لا في دراسة او مكان سكن كل ما اعرفه عنها انها من الطبقة الراقية جميلة بحد الجنون وحولها المئات من الشباب الراقي، لماذا تنظر لشخص مثل حالي رث الثياب من احياء بغداد الفقيرة حتى بيئتي تختلف عن بيئتها  لذلك تداركتُ نفسي لكي اعود الى افكاري وكيف اجمع المال لكي انفذ خطة هروبي من العراق الى ألمانيا.

في اليوم التالي بعد نهاية المحاضرة الثالثة لمادة المقارنة بين لغات الحاسوب البرمجية المرحلة الرابعة عام ١٩٩٥ اتجهتُ الى مكان جلوسي في المرمر الضيق  لاهيم في افكاري من جديد وافكر في نتائج هروبي خارج العراق  وما تاثيرها على مصير عائلتي ومستقبلي  من الناحية السياسية والامنية والاقتصادية واذا بنفس الفتاة وبنفس الوقت ونفس نظرات الشوق والحب والوجه البريء نحوي ,نظرتُ ثم اطرقتُ البصر فمالي ومال اصحاب النفوذ  والجميلات من امثالها وهناك الكثير من ابناء مسؤولي نظام البعث الدموي حاولوا التقرب منها لكنها صدتهم وعلى حد علمي انها من بنات احد المسؤولين في وزارة التعليم العالي وتستند على ارضية بعثية قوية فليس لي القدرة على مجاراتهم ومجارتها واخشى ان يؤذوني وعائلتي وانا لدي مشروع هرب يعتبر فعل جرمي ضد النظام الصدامي البعثي القائم في ذلك الوقت   ومخالف لتعليماته يعاقب علية بالاعدام  لذلك تركت مكاني لعده ايام في ممرري الضيق وانتقلت الى مكان اخر اشرد فيه بأفكار هروبي خارج العراق وايضا ابتعد عن نظرات تلك الفتاة.

  في يوم حار بعد انتهاء اخر محاضرة  حملت اوراقي لاهم بالخروج الى الدار كان لا بد لي ان اسلك ذلك الممرر الضيق  للخروج وصلت الى مكان جلوسي واذا بفتاتي جالسه فيه تنقش حروف على جداره كأنها تريد ان توصل رساله ما ,لم تراني او تنتبه لي لذلك اشحتُ بوجهي عنها وابتعدت في سبيلي فانا جدا مشغول اريد ان اصل الى البيت بأسرع وقت ارتاح قليلا ثم اتجه الى عملي كسائق اجرة بسيارتي الخاصة بقايا اموال ابي قبل الحصار التي اتعبتها مسالك الطرق وقطع الغيار المستعملة لأجمع قوتي وقوت عائلتي لليوم التالي كان عملي من اخطر الاعمال في ذلك الوقت فقد كثرت حالات التسليب وسرقة السيارات وقتل اصحابها ،كان العمل متوقف والشعب يرزح تحت حصار قوي وسلطه جائرة والطعام قليل لكن ما باليد حيلة فلابد ان اعمل حتى اعيش واكمل دراستي .

وفي صباح اليوم التالي دخلت جامعتي واتجهتُ مباشرة الى مكان جلوسي في الممر الضيق لارى ماذا نقشت فتاتي على الجدار  والمفاجئة ما رأيت فقد نقشت على الجدار اسمي الاول بخط جميل محفور بإتقان باللغتين العربية والانكليزية وهنا بدأتُ  التساؤلات تدور في ذهني ماذا تريد هذه الفتاة؟! هل تريد اللعب ام السخرية مني؟! ام ماذا؟, لقد شغلت كل تفكيري ونسيتُ فكرة السفر  والهروب وطارت من عقلي تماما.

اتجهتُ الى اثنين من زملائي في الصف واخبرتهم بما جرى لكنهما ضحكا علية بسخرية كبيرة وضحكتُ معهم ايضا فمن العجيب ان تنظر فتاة مثلها لشخص مثلي فقد كانتْ مشهورة بين اوساط الجامعة لجمالها وحسن تأنقها ومنطقها في الكلام ولغتها الانكليزية بلكنه بريطانية،

لم يصدقاني لكني اجبرتهم ان يأتوا معي الى مكان جلوسي في الممرر الضيق  لاثبت لهما صحة قولي ولا اكون محط سخرية لهم او اتهم بالمبالغة ، كان الاتفاق ان ادير ظهري كأني لم انتبه لها وهم يراقبون ماذا تفعل وجاء وقت خروجها ونفذتُ الخطة وبعد مرور دقيقة رفعوني من ياقة قميصي بطريقة ساخرة وهمسا بصوت واحد هذه الفتاة تحبك,

قلت:-ماذا؟ تحبني؟! كيف  !؟

قال احدهم:- نعم تحبك وقفتْ ورائك ركلتْ الارض بحذائها تنهدت ْوعيونها تكاد تدمع ثم سحبتها صديقتها من يدها ورحلتا

قلت:- لا انها تسخر مني فلست صاحب جمال ولا مال

قال:-تحبك وكفى

فأصبحت لنا عادة انا وزميلاي ان نقف كل يوم في نفس المكان والزمان نراقبها عند الخروج وهي تنظر الي بنفس النظرات.

كنت اخاف ان اكلمها خوفا من ان ينتهي هذا الحلم الجميل فقد طُبعتْ صورتها في خيالي حتى اني نسيتُ فكرة السفر احببتها نعم احببتها وكتبت فيها قصائد شعر كثيرة تناقلها عشاق الجامعة فصيح اللسان لكن قليل الجراءة .

كان لي زملاء وزميلات في الدراسة يتجمهرون حولي بما يخص الدراسة كنت من المتفوقين واحصل على درجات عالية واساعد الاخرين على الفهم والاستيعاب  ,رغم  ان دراستي علمية لكني احب ان اكتب الشعر  واحفظه .لم اهتم بالحب ومشاعرة فلا يوجد وقت لذلك بين العمل والدراسة والتفكير في السفر. لكن فتاتي الجميلة غيرت كل شيء حتى زملائي و زميلاتي اصبحت مرافقتهم لي  لمدة اطول ويتجمعون حولي بسببها ليشاهدوا تلك للنظرات نحوي منها.

لقد اصابني الوله بها واصبحتُ لا افكر بشي سواها اتبعها الى بيتها اظل واقف ساعات طوال اراقب دارها  تطل علي في كل لحظة من نافذة  غرفتها بنظرات جميلة وابتسامة رائعة , ما اجمل الحب احسستُ بمتعة الحياة وحلاوتها رغم الظروف القاسية في ذلك الوقت.

حتى جاء يوم انتفضت’ به من خجلي تقدمتُ نحوها بخطى ثابته اطلقتُ تحية خافتة وبعدها اسمها فردتْ التحية بصوت عذب جميل ارسلني الى ما وراء الانتعاش بأشواط طويلة لتنسل ْالكلمات تنساب على لسانينا حتى قلتها احبكِ وقالتها احبك َلننطلق سوية ولأول مرة نسير في ممرنا الضيق امام انظار الجميع نتبادل كلمات الحب ,شعور لم  امر به طوال حياتي احسستُ ان العالم كله ملكي والحياة فتحت اذرعها لي ,لكن لم يدوم الامر طوليا فبعد مدة طلب مني ان احدد نهاية علاقتنا ،كان كل املها ان اخبرها باننا سوف تنتهي بالزواج وتكوين اسرة ,لكنها قد أيقظت فيَة امرا لم يكن في الحسبان فهل يقبل والدها ان يضع يده بيد والدي ام هل اقبل ان اعرض والدي الى اهانة كبيرة عندما يرفض والدها  تزويجنا لفرق الطبقات والبيئة والمعيشة ،وان وافق والدها هل استطيع ان اوفر لها حياة كما كانت تعيش في بيتها اهلها وانا لا املك حتى دار تؤويني وهل تتحمل  حياتي البسيطة وطعامي البسيط كل هذه التساؤلات مرت في ذهني  عجزت عن الرد فعلا لكنها كررت سؤالها (ما هي نهاية علاقتنا) فأجبت بعفوية (لا ادري ) وفعلا انا لا ادري ,لكن كانت لها ردة فعلها قوية لتصرخ في وجهي وتذهب بعيدا بصوت بكاء عالي  ,وقفت مذهولا ماذا فعلت وكيف تصرفت بهذا الشكل اين كان عقلي كان يجب ان افكر بكل شيء قبل ان اكلمها عن الحب اعلم اني أخطأت في مصارحتها بحبي لها .

(حبيبتي انا اسف اعلم اني متأخر لكن الحب وحده لا يكفي فنحن في مجتمع حقير لا يعرف غير السلطة وقوة المال وانت رقيقة لا تستطيعين ان تنامي على الارض او تأكلي خبز الشعير او خبز الحنطة المخلوط بالتبن ومسحوق نواة التمر حتما سياتي يوم تكرهيني فية اكثر مما كرهتني فية الان اذ ما تزوجنا ).كان هذا مضمون رسالتي لها بيد احدى زميلاتي .

لكني لم انسى ذلك المكان في الممر الضيق كنتُ يوميا اجلس فيه انتظر وقت خروجها لنتبادل نظرات العتاب ثم نرحل بقلوب كسيرة حتى تنازلتُ عن فكرة الهروب خارج العراق وتحملتُ اهوال العسكرية من اجل ان ابقى على ارض تعيش  عليها حبيبتي نعم كنتُ في كل اجازة اقضيها قرب منزلها وكانت تعلم بوقت اجازتي تطل علية من نافذة غرفتها لكن دون ابتسامة كان النظر لوجهها يريحني ويعينني على تحمل سنوات الخدمة العسكرية .

لقد مرت سنوات عديدة على اخر مرة رأيتها فيها ولا يزال القلب يملك ندبة ولا زلت اكتب قصائدي بوحيها رغم مرور اكثر من خمسة وعشرين عام على اخر الكلمات بيننا

انتهت

شباط ٢٠٢٠

ـــــــــــــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك