د. عباس الاسدي
ليس من العقل مواجهة الفساد في العراق بآليات عادية، ولا يمكن الحد منه بمقالة، او دراسة، او مؤتمر فهو ثقافة أصحاب الكراسي ممن يحرسهم الأمن، والقانون، والمحاصصة. ومعروف عن أصحاب الكراسي القسوة، والاستبداد، والغطرسة، والتجبر، وتضخم الأنا، وكراهية النفس، قبل كراهية الأخر، ويشعرون بضياع أعمارهم في الجهاد، ولابد من استرجاع حقوقهم المغصوبة من خلال إزاحة الأخر، بل البطش به، وجعله عبرة لمن يعتبر، فلا قانون يردعهم، ولا ثقافة تواجههم، وهم في زيادة يوما بعد أخر.
والفساد لغةً مصدر للفعل (فَسَدَ)، أي نقيض الصلاح، وقد يأتي بمعنى عضوي فيقال (فسد اللحم)، او (فسد اللبن) إذا أنتن، او أصابه العطب. والفساد تجاوز للحكمة، او الصواب فيقال (فسد الرجل) أي جاوز الصواب. وفسد العقل، أي بَطُل، وفسدت الأمور، أي اضطربت، وأدركها الخلل. وورد الفساد في القرآن الكريم في سورة الانبياء/ أية (22): (لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون). ويشير معنى الفساد الى الجَدب، والقَحط، وإلحاق الضرر، واخذ المال ظلما. والفساد اصطلاحا نقيض للإصلاح، والرشاد، والخير العام.
وحين يعم الفساد في مجتمع، وتفوح روائحه النتنة يرافقه دعوات للإصلاح هدفها الثرثرة، وإشغال مساحات من بث القنوات الفضائية، ومقالات في الصحف، وندوات، ومؤتمرات، وورش عمل تتحدث ولا تعمل كما يجري في العراق الان فما يجري حديث عن الفساد دون وسائل، وإجراءات للحد منه، ومكافحته.
والفساد أحد أنماط السلوك الذي يقوم به، او يمتنع عن القيام به صاحب المنصب العام والذي يهدد من خلاله معيار القيام على الأمر بما يصلحه سواء وقع ذلك تحت طائلة القانون، والقواعد التي تحكم عمله، او لم تقع، والهدف من وراء هذا السلوك اعلاء المصلحة الذاتية على المصلحة العامة.
والفساد ظاهرة إنسانية تترابط بدوافع قوية لدى الانسان حين تضعف الضوابط القيمية، او تضعف آليات رقابته، ويترابط بحياة الانسان في مختلف مراحل التاريخ، ولا يختلف مجتمع عن أخر في غياب الفساد عن واحد، ووجوده في الثاني بل في قدرة المجتمع السليم على اكتشافه، والتعامل معه كدخيل على منظومته، ومقاومته بآليات قادرة على ذلك. اما المجتمع العليل فالفساد يتسلل اليه دون وعي بخطورته، ودون استنهاض للهمم لمقاومته، ودون وجود آليات لمكافحته.
والفساد في الدول المتقدمة استثناء تواجهه مؤسسات، وآليات لها القدرة على تتبعه، وتعينها وسائل إعلام حرة، وقوية، ورأي عام، وجماعات ضغط، ومنظمات غير حكومية متخصصة، ونقابات مهنية متخصصة، واستطلاعات رأي تؤشر عليه، وتكشفه، وتعين على مواجهته، على عكس ما في الدول الأخرى إذ يعلو شأنه ليكون ثقافة لمسؤول متسلط يستغل قدراته، وحزبه، وعلاقاته الشخصية، والحزبية ليروج له، ويجعله مشروعا، ويبطش بمن يخالفه.
وللفساد أركان تتحالف فيما بينها لخلق منظومة يعين بعضها بعضا وهي الحاكم المستبد، والسياسي الوصولي، والمال المباح، والمناصب الفوضوية، والاعلام الممنهج، والمستفيدون من ذلك، ويدعم هذا ما اورده القرآن الكريم في سورة غافر/ أية (3، 4): (ولقد ارسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين الى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب). وثبتت علاقة الاستبداد بالطغيان في سورة القصص/ أية (4): (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح ابناءهم ويستحي نساءهم انه كان من المفسدين). وفي سورة الفجر/ أية (9 – 12): (وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الاوتاد، الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد). ويصبح لرأس المال سطوة على الحكم، ولو من وراء ستار نتيجة تردي الأوضاع كما في سورة العنكبوت/ أية (39): (وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين) إذ تقدم ذكر قارون، على ذكر فرعون.
ولا يشيع الفساد في مجتمع يرفضه، ويقاومه بوسائل متنوعة كما في سورة المائدة/ أية (78، 79): (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون).
وللفساد أنماط متعددة، فمنه (الوظيفي) ويظهر حين تسود الرشوة، والمحسوبية، ومنه (القانوني) ويظهر في التلاعب بمواد الدستور لصالح الحاكم ومن يحميهم، او تعطيل بعض القوانين، ويمتد للقوانين التي تنظم المجتمع، وصولا لقوانين العفو الجائرة لإطلاق من تمكن القضاء من الوصول إليهم ومحاكمتهم، ومنه (السياسي) ويظهر في استبداد الحاكم، والتوافقية، والمحاصصة، وتزوير الانتخابات، او التلاعب بنتائجها، والتعيين النفعي في المناصب العامة، وازاحة ذوي الكفاية، والتخصص، ومنه (الديني) ويظهر حين يتبع رجل الدين سياسي مستبد، ويروج له، ويشرعن افعاله، ويدفع الناس للجهل، والتغافل، والتغاضي، واهمية إغماض عيونهم، ومنه (المجتمعي) ويظهر حين ينتشر الفساد ويصبح ثقافة أبناء المجتمع ويشار للفاسد بأنه مثال يحتذى في تحقيق الأهداف.
ويقسم الفساد الى (اسود) عندما يحظى بقبول اغلبية أبناء المجتمع، والى (رمادي) عندما ترى النخبة في المجتمع ضرورة مواجهته في حين لا يرى أبناء المجتمع ذلك، والى (ابيض) عندما ينطبق على الاعمال التي ترى النخبة، وأبناء المجتمع انه يمكن التغاضي عنه وانه لا يستحق المكافحة، أو العقاب.
إجراءات مواجهة:
1. إطلاق صيحة عالية بوجه الظلم المتمثل بالفساد المستشري بالعراق والذي يتحول يوما بعد اخر الى ثقافة.
2. تفعيل دور النخب، والكفاءات بمختلف القطاعات لجعلها ثقافة مواجهة يتبناها المجتمع في مواجهة ثقافة الفساد المستوطنة، ورعاية منظمات المجتمع المدني المتخصصة بهذا المجال، ودعم الشخصيات النزيهة.
3. تكثيف مساحة الوعي المجتمعي في مواجهة الفساد، والفاسدين، وجعل المواطن وسيلة المواجهة الأولى واستثمار مختلف الوسائل للإطاحة به.
4. دفع المرجعية العليا للخروج من حالة انتظار الفاسد حتى يصحو، ويرجع نزيها الى حالة المواجهة الحاسمة فقد مضت سنوات طوال والحال يزداد سوءا، والأموال تتبدد، والمواطن يزداد بئسا.
5. التحرك الفاعل على منظمات الأمم المتحدة المتخصصة، ودفع المنظمات العالمية المتخصصة للقيام بدورها لا سيما مع زيادة انتاج العراق من النفط، وتنوع منافذ تصديره، وارتفاع حجم القروض الداخلية، والخارجية، وشيوع البطالة، والفقر، والحرمان، والجهل، والتسرب من المدارس، وتنامي ظواهر دخيلة على المجتمع.
https://telegram.me/buratha
