قاسم آل ماضي
يتمتّع السيد الشهيد الصدر بالكثير من المزايا، من قبيل: الإنصاف الفكري في التعاطي مع الخصوم ومن يخالفه في الرأي والتفكير، وتنظيم سلسلة الأفكار والمقدّمات، والبعد عن الإسفاف أو الإسراف الفكري، ومراعاته للأولويّات الفكرية، واحترام النظريّات العلمية للآخرين وحمله لها على محمل الجد، واهتمامه بالنمط والمنطق الفكري للآخرين، وانتهاجه المنهج المنطقي والتفكيكي في التفكير والتأمّل، وعدم الخلط بين العرفان والفلسفة، وقيام فهمه للنصوص الدينية على الركيزة الروحيّة والاجتماعية، فلم يكن فهمه لها فهماً أصولياً تقليدياً ملّائياً (إذا لم يخذلني التعبير).
أنّ أهم خصوصيّة تميّز السيد الشهيد الصدر هي جمعه بين العبقرية الفذّة والعقليّة الكبيرة، وبين الروح المتسامية والأخلاقية المتواضعة. فعادة عندما يتضخّم العقل تتراجع القيم الأخلاقية في نفس الإنسان؛ حيث يشعر المرء بعظمته وعلوّ شأنه، ويترتّب على هذه الحالة الشائعة استخفافٌ بالنمط الفكري لدى الطرف الآخر، والتسرّع في إصدار الحكم بشأنه وعدم إنصافه، بل واحتقاره والسخرية منه. وعليه فإنّ الجمع بين العبقرية العقليّة والتواضع العلمي يعدّ أمراً في غاية التعقيد والصعوبة، كما أنّه في الوقت نفسه مؤثّر جداً في الإنتاج الصحيح للعلم.
ما يميّزه هو الاهتمام بالمشاكل المعاصرة للمجتمع، والتواضع الروحي والعقلي، إلى جانب ما يتمتّع به من أخلاق التضحية والفداء والتفاني الحقيقي والجادّ في إيمانه الروحي الذي يصل إلى حدّ الموت وقطع الوتين، والترفّع عن التنافس داخل النطاق الحوزوي الضيّق، واعتباره المرجعيّة والفقاهة وما إلى ذلك من الاعتبارات والمناصب وسيلةً لا غاية، واعتقاده القاطع بأنّ الإسلام دينٌ يصلح لبناء الدنيا والآخرة، وأنّه دينٌ للفرد والمجتمع.
بالإضافة إلى رؤيته الجادّة لعناصر نهضة المسلمين في العصر الراهن، من قبيل: الاقتصاد والعقلانية الفلسفيّة المتوازنة، ونظرته للنصوص الإسلامية الأصيلة (المتمثلة في القرآن الكريم والسنّة المطهّرة) برؤية اجتماعية غير فردية وكلّية غير تجزيئية.
إنّ فهم السيد الشهيد الصدر للإسلام هو فهم فلسفي عقلاني حضاري ـ بالمعنى العام للفلسفة الشامل للفلسفة الاجتماعية والأخلاقية والسياسية، وليس مجرّد فلسفةٍ وجودية ـ شاملٌ لمنظومة الأبعاد الاجتماعية والسياسية؛ ولذلك نجده يطرح مقترحاتٍ وأمور من قبيل: (فقه النظريّة)، و(التفسير الموضوعي)، و(الفهم الاجتماعي للنص)، و(التمييز بين العقل النظري المحض والعقل العملي التطبيقي الاجتماعي)، ويؤلّف كتباً من قبيل: (فلسفتنا)، و(الأسس المنطقية للاستقراء)، و(اقتصادنا)، و(مجتمعنا) الذي لم تسعفه الظروف لإتمامه مع الأسف الشديد.
خصوصيّة السيد الشهيد الصدر التي جعلته يُبدع نظرية جديدة في كلّ حقل يطرقه من حقول الدين، هي خصوصيةّ الإبداع، والإيمان الكبير بأهميّة الإنتاج العلمي والمعرفي، والاعتقاد الراسخ بعدم الاكتفاء بتراث القدماء في معالجة مشاكل العصر الراهن رغم أهميّة وضرورة هذا التراث.
إنّ هذا النوع من الاعتقاد عندما يترسّخ في وعي شخصٍ مبدع وفذّ تكون نتيجته خلق فضاء معرفي جديد في كلّ موضوع يطرقه، فلا يكتفي بمجرّد شرح نصوص القدماء أو مجرّد الاحتفاظ بالتراث.
إنّ السيد الشهيد لم يكن يكتفي بالموروث الثقافي لدى المسلمين فقط، وإنّما كان اعتقاده يقوم على ضرورة الاستفادة من المنجزات العلميّة والعملية التي أبدعها الآخرون بما لا يضرّ بمجتمعنا وديننا وقيمنا.
إنّ هذا (الانفتاح الفكري)، وهذه (الرؤية التقدّمية) بالإضافة إلى الخصائص التي ذكرناها في معرض الإجابة عن الأسئلة المتقدّمة، تكفي لكي تقدّم لنا مُبدعاً من الطراز الأوّل.
إنّ أهمّ إنجاز حقّقه السيد الشهيد الصدر يكمن في تأصيله للمفاهيم والقيم والمسؤوليّات الإسلامية في المجتمع الإسلامي بشكل عقلاني وواقعي وحيوي، بل وعملي، ولذلك نجده فور إدراكه لقيام النظام الإسلامي بقيادة الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) يسارع إلى تأييده ومباركته ويضع نفسه في تصرّف هذه التجربة الوليدة ويدعو إلى نصرتها ومؤازرتها.
https://telegram.me/buratha
