المدهش في موضوع الفلوجة هو أننا كنّا نعرف جميعاً، منذ ما يقارب السنتين، أننا سنصل الى هنا. حسّ الفجيعة و»الصدمة»، والوعي بالمأساة التي ضربت العراق والمعارك المقبلة عليه، قد وقع منذ زمنٍ بعيد، حين اجتاح «داعش» هذه المدن، وهجّر أهلها، وأقام المذابح فيها؛ وعانت الغالبية العظمى من أهل الفلوجة، مثلاً، التشرّد والنزوح، فاستأجر منهم في بغداد وباقي المدن من كان قادراً، ويمكث الباقون الى اليوم في مبانٍ عامة ومخيّمات ومضافات (هل التفت «المتعاطفون مع الفلوجة» يوماً الى هؤلاء، أو أمدّوهم بالعون والمساعدة؟).
السّؤال الوحيد، منذ غزو «داعش»، كان عن الكيفية وبيد من وبأي ثمن سيكون التحرير، وهل يمثّل «داعش» مقدّمة لعودة الجيش الأميركي الى العراق؟ أو دخولاً عسكرياً تركياً؟ أم يسقط العراق في مجاهل التقسيم والإمارات الطائفية؟ حين تتأمّل في هذه الاحتمالات التي كان البلد على شفيرها، تفهم لماذا يقدّس أكثر العراقيين «الحشد الشعبي» (مهما شيطنه الإعلام الخليجي ورجاله) ويعتبرون أنه، لولاه، لما كان هناك عراقٌ اليوم.
بطبيعة الحال، لا يمكن مواجهة إعلامٍ مهيمن وحملات تحريض ــــ تقوم على الإغراق والكمّية وليس على الإقناع والمحاججة ــــ عبر تفنيد الحجج أو بخطابٍ منمّق أوعرضٍ لوقائع ــــ فهي لا تهمّ. منذ سنتين الى اليوم، تحرّر أكثر من 40% من المساحة التي كانت تحتلّها «داعش»، وأكثر التحرير كان على يد «الحشد»، فهل حصلت مجازر طائفية في بيجي؟ هل وقع «تطهير عرقي» في العلم والدور؟ هل مُنع أهالي تكريت من العودة اليها؟ ولكنّ «التحذيرات» والحجج ذاتها تتكرّر اليوم ــــ بل أنّ بعض الكتّاب والسياسيين يكذبون بكلّ بساطة، ويقولون ان أهالي تكريت قد مُنعوا من العودة، فيما المدينة قد رجعت الى الحياة منذ أشهر، وكليات جامعتها تستقبل آلاف الطلاب اليوم (وتقول الأمم المتّحدة أخيراً، في تصريحٍ لممثليها في بغداد، إن أكثر من 600 ألف عراقي ممّن هُجّروا قد عادوا الى المناطق المحرّرة).
في تعليقٍ لباحث بريطاني اسمه بن روبن عن الفلوجة والإعلام، يذكّر بأنّ مسألة «الوعي بالحدث» (perception) ونظرة الجمهور العربي الى المعركة، على أهميتها، هي بطبيعتها «مرنة» وغير موضوعية ولا يمكنك التحكّم بها الّا ضمن حدود. بمعنى آخر، لو شاء الإعلام المهيمن أن يحوّل المعركة الى مواجهة طائفيّة، وهو يؤثّر بجمهورٍ لا يملك تجربة مباشرة مع الحدث ولا وسائل بديلة لاستقاء المعلومة، فأنت ــــ مهما فعلت ــــ لن تتمكّن من منعه. ولكن، إن كان في وسعك، ضمن حدود، أن تعذر الجهل، أو حتّى غياب النقدية، الّا أنك تتوقّع ممن يطلق موقفاً، ويعيّن نفسه حكماً على العراقيين، قدراً من الاتّساق أقلّه، وأن يكون في العالم الذي بناه (مهما كان زائفاً) نوعٌ من المنطقية، أي بتعبيرٍ آخر أن تكون حجّته ــــ ولو من وجهة نظره ــــ قابلة للنقاش ومسؤولة.
تخيّل، كمثالٍ نظري، أن تعرّف عن نفسك سياسياً بأنّك مع «محور المقاومة» ولكنّك، في الوقت نفسه، مع اسقاط النظام السوري، وتعتبر النظام الايراني غير شرعيّ، وحزب الله قوّة طائفية يجب أن تسلّم سلاحها. توجد هنا، بغض النظر عن منطلقاتك، مغالطة منطقية، أو أنّك تتكلّم على «محور مقاومة» موجود في رأسك، وليس في سياقنا التاريخي والمعجمي. هذا ما نجده اليوم في المواقف التي تجرّم «داعش»، وتجرّم من يقاتله، وتصطنع الخشية على الفلوجة حين يحرّرها العراقيون، ولا تقلق على الرمادي، ولا تسمع بما جرى في سنجار، وتهلّل للطيران الأميركي وهو يحوّل «كوباني» (عين العرب) الى أنقاض ــــ وهو يشبه أيضاً خطاب قسمٍ من النخبة العربية ما زال يقول انّه مع «الثورة السورية» ولكنه ضد «داعش» و»النصرة»، وجيش الاسلام وأحرار الشام، والمعارضة الخارجية والمجالس السياسية؛ بل هو مع «الناس» (انت تحتاج الى قدرٍ هائل من النرجسية، ومن احتقار هؤلاء «النّاس»، حتّى تستخدم اسمهم بهذه الحرية وحسّ الاستحواذ، كأنك وحدك من يتّصل بهم ويمثّلهم ويعرف ما يريدون).
النفاق، والمواقف المريحة التي يتيحها، هو ترفٌ لمن يملك أن يعزل نفسه عن المعركة ونتائجها، ولن تصل «داعش» اليه ولن يخاف من الأحزمة الناسفة، فتكون الفلوجة ــــ كتكريت قبلها ــــ مجرّد «حدثٍ إعلامي»، يتفاعل معه لحظياً (أو يستثمره) ثمّ يمرّ عليه وينساه. لو أنّ الكلام على الغارات الأميركية ضدّ الفلوجة، مثلاً، يأتي في سياق خطابٍ صادقٍ في رفض الوجود الأميركي، ويعارض فعلاً نفوذ واشنطن في العراق ومخططاتها، من أربيل الى الحدود التركية الى المنطقة الخضراء، لكان موقفاً صحيحاً يستحقّ الاحترام. ولكنهم لا يذكرون الغارات الّا في إطار التذاكي على الحشد الشعبي (في مشهدٍ كاريكاتوريٍ يتكرر لمنبرٍ سعوديّ أو قطريّ يعاير «الحشد» بالأميركيين وأنهم يحاربون أعداءه، ضمن نظرية أن قادةً مثل قيس الخزعلي أو أكرم الكعبي هم في الحقيقة حلفاء لأميركا فيما هو، بوق الأمير، يمثّل العداء الفعلي للهيمنة والامبريالية).
هذا لا يختلف كثيراً عمّن يدّعي مقاربة الحرب في سوريا من زاوية «انسانية»، تعلو على «السياسة»، ويقول إنّ همّه هو المدنيون وحياة النّاس والشعب ولكن، بدلاً من تبنّي الموقف الذي يفترض أن ينتج منطقياً عن هذا الخطاب، وهو «أوقفوا الحرب» (وهو، على سذاجته، موقف اليسار والليبراليين في اوروبا تجاه أكثر حروب العالم الثالث تاريخياً)، يستنتج ــــ باسم الانسانية ــــ وجوب اسقاط النظام واجتياح سوريا وشحن السلاح الى المعارضة (التي هي ليست أحرار الشام ولا جيش الاسلام، ولا النصرة وداعش).
كلّ ما عليك فعله هو أن تسأل نفسك، سواء كنت علمانياً أم اسلامياً، ليبرالياً أو ماركسياً: ماذا كنت ستفعل لو صعدت في مجتمعك قوّة كـ»داعش»، تبيع النساء كالرقيق وتدعو الى الإبادة وتمارسها؟ ومن ذا الذي يحبّ الفلّوجة حقاً، هل هو من يعلن الحداد والجزع على تحريرها بسبب «الحشد» وقاسم سليماني، أم من يبذل حياته لأجلها؟ الفلوجة هي في النهاية مدينةٌ وليست وطناً، والأساس ليس أن تتحرّر الفلّوجة، بل أن يصير العراق حرّاً، أقلّه من لوثة القتل والكراهية. العراق، كما أثبتت الأيام، لا يحتاج الى حماية من أبنائه، بل في أن يكفيه «اخوته»، الذين تبنّوا الموقف الخطأ في حقّه لدى كلّ مفصلٍ أساسي منذ نصف قرن، شرّهم ونفاقهم.
https://telegram.me/buratha