يقيناً ان الاحزاب ضرورة في اي نظام ديمقراطي، بل هي ضرورة حتى في النظم الدكتاتورية التي تحكم وتدار من حزب واحد.. لكن المتيقن منه بالمقابل، ان الاحزاب –عندنا- خرجت من مساحاتها وادوارها المعروفة، ليس في الدولة فقط، بل في المجتمع ايضاً. ودون ان نبالغ او نكون قساة مع انفسنا او مع بقية الاحزاب نقول، ان كثيراً من اعمالنا وممارساتنا، لا تختلف كثيراً عما سبق واستنكرناه وقاتلنا لالغائه من سيطرة حزبية على الدولة والمجتمع من قبل النظام الصدامي. قد يكون الفارق انه كان حزباً واحداً واصبحنا احزاباً متعددة.. وقد يكون الفارق ان الاستئثار كان احادياً، واصبح الان تحاصصياً.. وهنا تكون الاحزاب ظالمة لنفسها ولشعبها. لكن الخروج بهذا الحكم وحده سيكون ظلماً واجحافاً. فلو اخذنا حراكها ككل، سواء نتيجة وعي او تنافس، فان الاحزاب والقوى السياسية ساهمت وتساهم في بناء الحياة الديمقراطية، ولو ببطء وتعثر شديدين.. فاللقاءات، والتدافعات، ورفض هيمنة طرف هي انشطة وسنن اجتماعية، ستساهم في النهاية، في بناء تجربة ديمقراطية انضج وارقى من التي نمارسها حالياً.
نعم يجب ان يكون للاحزاب نظريات ومناهج تسعى لاقناع الشعب بقبولها والسير بموجبها.. لكن تطبيق هذه المناهج لا يكون عبر التوغل في الدولة والهيمنة على مفاتيحها ومفاصلها.. او عبر مسك عناصر القوة في المجتمع بما في ذلك المسلحة. هنا تغدر الاحزاب الديمقراطية، وتغدر نفسها ببناء حاجز بينها وبين الشعب. لذلك نشهد انتقاداً شديداً من المواطنين والمرجعية لسعي الاحزاب للسيطرة على مختلف مواقع الدولة والمجتمع بما في ذلك ابسطها.. بكل الاضرار التي تولدها هذه العملية من تعطيل عمل الدولة والقانون العادل، وتخويف الناس، وبث عوامل الصراع، وتشجيع حالات النفاق والممالئة والغش والتزوير المادي والمعنوي.
كان امراً مفهوماً في بداية التغيير ان تحصل اجراءات لتغيير سيطرة الحزب الواحد.. وكان امراً مفهوماً ان تساهم القوى والاحزاب التي جاهدت وقاتلت وقدمت التضحيات في ضخ عناصر جديدة في مؤسسات الدولة والمجتمع. لكن اكثر من عقد قد مر على التغيير.. وان تجربة التوغل في الدولة ومساعي السيطرة على المجتمع ما زالت مستمرة.. وان اول واهم من يستطيع ايقاف ذلك واعادة الامور الى نصاباتها هي الاحزاب نفسها وقياداتها وجمهورها.. وهو ما يجب دعمه والسعي لاصلاح هذا الحيد الذي غرقنا جميعاً فيه. فان لم نقم بذلك فسنعاقب انفسنا، وسيعاقبنا الشعب.
مساحة الاحزاب في المجتمع هي بث الوعي في صفوف الجمهور، بالوسائل السلمية عبر التنظيمات والفعاليات والخدمات والسياسات الترويجية والاعلامية لحماية الحقوق التي اقرها الدستور.. وهي طرح البرامج الصحيحة، والفوز في الانتخابات، لتشكيل حكومات تلتزم او قريبة مما صوت له الجمهور، او كمعارضة منعاً من الهيمنة ولضمان تعددية الاراء والاجتهادات ليتضح الانضج بينها. ومواقع الاحزاب في الدولة هي السلطات التشريعية والتنفيذية العليا. اما الدولة والمجتمع ككل فهما حق للجميع -مستقلون وحزبيون- يحصلون فيهما على ادوارهم ومواقعهم، ليس بسبب حزبيتهم، بل لكفاءاتهم واختصاصاتهم وقدمِهم، وهي الاجراءات السليمة كما يفعل الاخرون.. لتكون الدولة دولة المواطن، كل المواطنين، وليكون المجتمع كريماً متحرراً من اي اجحاف او ظلم او قسر او اعتداء، سواء تمارسه الدولة او اي حزب او قوة.
عادل عبد المهدي
https://telegram.me/buratha