طالب رحمة الساعدي ||
· الخطوة الثانية عشر : الدوافع تجاه قيام حضارة في عهد الامام عجل الله فرجه.
الدافع الثاني : ردود الأفعال الاجتماعية
إنّ قانون الفعل وردّ الفعل الذي ينصّ على أنّ لكلّ فعل ردّ فعل يساويه في المقدار ويعاكسه في الاتجاه،
بحيث لو اصطدم جسم بجدار بقوة معينة، فإنّ هنالك ما يدفعه بتلك القوة نفسها إلى الخلف، لا يقتصر على الأبحاث الفيزيائية، بل يبدو أكثر وضوحًا في القضايا الاجتماعية.
ولعلّ الدراسات التأريخية ترشد إلى أنّ النهضات والثورات العماقة إنّما كانت على الدوام ردود أفعال مباشرة
تجاه ضغوط مسبقة، وربّما لم تقع ثورة عارمة في العالم، إلاّ إثر ضغوط شديدة سبقتها ومهّدت لها.
بعبارة أُخرى، إنّ التغييرات والتطورات وليدة التشددات. مثلً:
-1 النهضة العلمية لأوروبا )عصر النهضة( - كانت ردّة فعل إزاء ألف سنة من الجهل والتخلف السائد في القرون الوسطى، وحجم الضغوط التي مارسها القائمون على شؤون الكنيسة بغية الإبقاء على حالة التخلف لدى الناس - التي قضت على العوامل التي تقف وراء الجهل ورفعت راية العلم والمعرفة فأخذت تخفق في كلّ مكان.
2-الثورة الفرنسية في العام1789 التي شكّلت قفزة نوعية في المجال السياسي والاجتماعي، فوقفت بوجه الاستبداد والاستغلال الطبقي والمنطق الغاشم والمتغطرس للأنظمة الحاكمة، وجعلت المجتمع الفرنسي - ومن ثمّ سائر المجتمعات الأوروبية - تدخل مرحلة تأريخية جديدة يسود فيها القانون-إلى حدود معينة - بد من الاستبداد والطغيان.
-3 الثورة ضدّ العبودية - التي انطلقت شرارتها الأُولى في العام 1848من بريطانيا - والتي أفرزتها المعاملة الفظة والغليظة للأسياد » تجاه «العبيد »، فأجّجت نار الثورة لدى العبيد من جانب، وأثارت عواطف المجتمع لصالح أولئك العبيد من جانب آخر، فانتهى الأمر إلى زوال نظام الاستعباد، وإن اتّخذ هذا الاستعباد صيغًا أُخرى أكبر سعة وأعظم خطورة، حيث ظهر «الاستعمار » بذريعة «إعادة بناء البلدان المتخلفة ». على كلّ حال، كان ينبغي القضاء على نظام العبودية، لكن أُسلوب التعامل مع العبيد عجّل في القضاء عليه.
-4 الثورة على الاستعمار، في عصرنا الراهن كانت وما زالت ردود فعل مباشرة لأساليب المستعمرين وتصرّفاتهم، والتي ألهبت مشاعر قطاعات الناس وجعلتهم يهبّون لمناهضة القوى الاستعمارية، وإن لم تتمخّض هذه المواجهة عن استقلال تامّ اقتصادي واجتماعي وسياسي وفكري؛ غير أنها أفرزت أوضاعًا
يصعب مقارنتها بما كانت عليه سابقًا.
-5 الثورة الشيوعية - في العام1917 م كردّة فعل لظلم الرأسمالية وهضمها لحقوق أغلبية طبقات المجتمع الكادحة والمحرومة؛ رغم ما ذكرناه في موضعه - من أنّ هذه الثورة لم تحرّر هذه الطبقات الضعيفة وترفع من شأنها واستعاضت عن ذلك النظام الاستبدادي بنظام ظالم آخر تمثّل في «ديكتاتورية البروليتاريا » والتي تمثّل في الواقع هيمنة بعض رموز الحزب الحاكم.
-6 الثورة على التمييز العنصري كردّة فعل قام بها ذوو البشرة السوداء «الزنوج » ضدّ ذوي البشرة البيضاء، إلى جانب حرمانهم من حقوقهم الاجتماعية.
ولو تصفحنا التاريخ وعُدنا إلى الوراء، فإنّنا سنواجه قانون ردّ الفعل في كلّ مكان. تاريخ الأنبياء هو الآخر ينطوي على سلسلة من النهضات والحركات التي أفرزها ما سبقها من ضغوط اجتماعية قويّة، وقد وجه الأنبياء تلك النهضات في مسارها الصحيح من خ ل قيادتها على ضوء التعاليم السماوية. ولعلّنا ا
لا نتلمّس مظاهر هذا القانون في التاريخ القديم والمعاصر في القصص الواقعية لحياة الأُمم والشعوب فحسب، بل إنّنا نرى نماذج ذلك القانون في أساطير سائر الأقوام.
فقد جاء في أُسطورة «الضحاك » و «كاوه الحداد » أنّ دماغ الإنسان كان طعام الحيتان التي يحملها على كتفه، وكان عليه أن يخرج كلّ يوم دماغًا من جمجة ويعطيها الحيتان كي تقرّ وتهدأ. ولعلّ هذه هي حقيقة «الاستعمار » الذي يقتات على الأدمغة؛ حيث يعتبر الاستعمار الفكري الدعامة الأساسية لكافة أنواع الاستعمار.
ثمّ يطالعنا من بين ذلك المجتمع المحروم، والذي يعاني من سطوة الضحاك، حدادًا ذاق طعم النار فشمّر عن ساعديه، وجعل صدريته راية للثورة فواجه طغيان الضحاك وأطاح به.
وتضمن علم النفس المعاصر بحثًا يكشف عن هذا القانون يفيد هذا البحث: بأنّ رغبات الإنسان ما لم تشبع بالصورة المناسبة، فإنّ هذه الرغبات تكبت في ال شعور؛ لتنتقل من مرحلة «الشعور الظاهر » إلى مرحلة «الباطن » فتثير عقدة في الضمير الباطن لدى هذا الإنسان. بل أبعد من ذلك، إنّ البعض يعتقد أنّ الضمير الباطن ليس بشيء سوى هذه الرغبات المكبوتة، وأنّها لا تستقرّ في ضمير الإنسان وتنطفئ جذوتها، وتسعى دائمًا لأن تطفو على السطح؛ وتبدو ردود فعل هذه العقد متفاوتة لدى الأفراد، لكن يمكن القول إنّها عادة ما تعبّر عن نفسها بإحدى الصيغ الآتية:
-1 عن طريق إيجاد بعض الاخت لات النفسية وعرقلة التفكير التلقائي.
2-عن طريق الهروب من المجتمع والتقوقع والتشاؤم.
-3 عن طريق الثأر من المجتمع الذي جعله كذلك.
-4 عن طريق الإشباع الفارغ والخيالي.
-5 عن طريق «التصعيد » والتحليق نحو المراحل الأرفع.
مثلاً افرض أنّ فتى كانت له رغبة شديدة بفتاة، وحال والداه دون الزواج من هذه الفتاة، فالواقع أنّ هذه الرغبة الجامحة ستكبت في عقله الباطن، وهي ليس فقط لا تزول، بل ستظهر سريعًا بصيغة ردود أفعال عنيفة. فلربّما جعلته مجنونًا، أو تسوقه إلى التقوقع والانطواء، أو تحيله إلى إنسان يحبّ الثأر والانتقام،
وبالتالي تجعله مجرمًا خطيرًا، أو تشدّه إلى الشعر والأدب، ليعيش تلك الأجواء الرومانسية التي تسوقه إلى الأحلام بغية الوصال بالمحبوب.
لكن قد يتبدّل نفس هذا العشق المادي أحيانًا إلى عشق سماوي ورباني عميق، فينزع من قلبه ما سوى الله ليكون شخصًا عارفًا وحكيمًا منطويًا على أفكار رفيعة متعالية. طبعًا ينشأ هذا الاختلاف من سائر الاختلافات النفسية والاستعدادات الروحية لمختلف الأفراد.
وبناءً على ما تقدّم، فإنّنا نلاحظ أنّ الضغوط النفسية إنّما تواجه عادة بردود فعل عنيفة وثورات ونهضات متنوعة.
النتيجة:
يشير هذا القانون إلى أنّ أوضاع العالم الراهنة حبلى بالثورة. فضغوط الحروب والمظالم والممارسات الشنعاء والتمييز العنصري وانتهاك العدالة، إلى جانب فشل الإنسان، وشعوره بالإحباط من القوانين السائدة في القضاء على هذه الضغوط ومعالجتها، سيجعلها تبرز إلى السطح في خاتمة المطاف بصيغة
ردود فعل عنيفة. وبالتالي، فإنّ هذه الرغبات الإنسانية المكبوتة ستتحول في ظلّ تنامي مستوى يقظة الأُمم إلى عقدة اجتماعية تنطلق من العقل الباطن للمجتمع لتطيح بهذا النظام السائد لدى المجتمعات البشرية، وتقدّم مشروعها الحديث؛ المشروع الذي يغيب فيه سباق التسلح المقيت من جانب، كما لا تشمّ فيه رائحة النزاعات البغيضة والحروب الدموية الطاحنة ومفردات الاستعمار والاستبداد والظلم والفساد من جانب آخر.
وهذه بارقة أمل أُخرى على إشراقة المستقبل الذي ينتظر المجتمع العالمي.
ألواح طينية، المجتمع العالمي، طالب رحمة الساعدي
ــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha