د.علي المؤمن ||
هناك من يتصور أن الوحدة على أساس العقيدة أو المذهب، تتعارض مع الوحدة على أساس الوطن، أو مع الاعتزاز بالقومية والقبيلة، وأن حب الوطن وحمايته والدفاع عنه والانتماء اليه، يتعارض مع الانتماء الى المذهب وحبه وحب أتباعه والدفاع عنهم. والحال؛ إن التعارض بين الانتماء للوطن وحبه وحب أبنائه من جهة، والانتماء للدين والمذهب وحب أبنائه من جهة أخرى؛ هو تعارض مصطنع، ولايستقيم مع التعدد الطبيعي لانتماءات الإنسان وهويته المركبة.
فأبناء العراق أو لبنان أو ايران أو باكستان أو البحرين- مثالاً- يوحدهم تراب الوطن وسماءه وخيراته وجنسيته ومصيره المشترك، ولا تعارض بين وحدتهم بكل طوائفهم وقومياتهم وأفكارهم، على أساس الجنسية والقانون ومبادئ العيش المشترك والمصالح من جهة، وبين وحدة المسلمين على أساس الثوابت الدينية، أو وحدة شيعة العالم في إطار مذهب أل البيت، وحبهم لبعضهم ودفاعهم عن بعضهم، وهو ماتدل عليه عشرات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والإمامية.
ومن أهم ميزات الإسلام هو أنه جعل هوية المسلم مركبة، بعد أن كانت أحادية، هي الهوية القبيلية، بينما وضع الإسلام انتماء غالباً جديداً، هو الانتماء الى العقيدة، وفي الوقت نفسه لم يتنكر الإسلام الى انتماء المسلم الى القبيلة والى مسقط الرأس ومكان السكن (الموطن)، وحبهم والاعتزاز بهم والدفاع عنهم؛ فبات الإنسان المسلم يوصف بهويته المركبة: مسلم، شيعي، عربي، مضري، قرشي، هاشمي، علوي، حسيني، عراقي، كوفي. وكلها انتماءات مشروعة وطبيعية، ومن حق الإنسان الانحياز إليها، رغم تعددها. ولكن؛ يبقى أن تقديم إحداها على الأخرى في سلم الأولويات، يعود الى طبيعة مرجعية الإنسان وفهمه، والى طبيعة الظرف؛ فمثلاً بقي بعض المسلمين ينزعون الى القبيلة، ويقدمونها على الدين، وآخرون يقدمون المضرية على الدين، أو العروبة على الدين. بينما كان المسلم الحقيقي هو الذي يتعامل بتوازن مع هذه الانتماءات، ويعي كيف يدير عناصر هويته المركبة، ولايتركها لقمة سائغة للدعاية الجاهلية أو السلطوية؛ الأمر الذي يتسبب في حالة عميقة من الإرباك الفكري والنفسي، وصولاً الى الوقوع في شرك الانحراف.
والحقيقة أن من يرى في ـ الوقت الحاضر ـ وجود تعارضات بين الوطنية والانتماء الى الوطن من جهة، والانتماء الى الإسلام ومذهب آل البيت من جهة أخرى، ولا يتعامل مع مبدأ الأولوية وفق الظرف والحالة؛ فإنه يكشف عن مرجعيته الايديولوجية المتعارضة مع القرآن وسنة رسول الله وأهل بيته، أو أنه خاضع لتأثير ثقافتها ومفاهيمها، وأبرزها ثلاث أيديولوجيات:
1- ايديولوجيا البعث العنصرية الطائفية، المعادية للدين والمذهب والوطن، وهي امتداد للعقيدة الأموية في بعدها السياسي. هذه العقيدة كغيرها من العقائد العنصرية النازية، تجعل من العنصر القومي معياراً للتفاضل المطلق، وتخلق من الوطن آلهة تعبد، من أجل أن يستطيع الحاكم البعثي تمرير طغيانه ومغامراته بذريعة الوطن والوطنية والقومية، ويسحق الشعب تحت رايتها. ولاتزال هذه الايديولوجيا بفعل دعايتها وإعلامها وحراكها في المحيط العراقي والعربي، تمارس أبشع أنواع التضليل في هذا المجال.
2- الايديولوجيا الوهابية السعودية التكفيرية، وهي امتداد للعقيدة الأموية في بعدها الديني، وهي تضع القبيلة ثم القومية معيارين للتفاضل، وتفرض سلطتها القبلية على الآخرين باسم الوطن والدين، وتمارس منذ العام 2003 دعاية فتنوية مركزة تستهدف ضرب الشيعة ببعضهم، وفصل مساراتهم، من خلال مفاهيم ومصطلحات تحريفية تخريبية، مقترنة بآلاف الانتحاريين والمفخخات، وبذبح العراقيين، وتخريب وطنهم وتمزيقهم اجتماعياً.
3 - الايديولوجيا العلمانية الغربية، التي تفصّل مقولات السياسية والقانون على مقاساتها، وتفرضها على كل البشر، بمن فيهم البشر الذين يختلفون معها في عقيدتهم وتاريخهم ومناخاتهم الاجتماعية التراكمية. ومن أبرز مخرجاتها الفكرية ما عرف بالدولة القومية أو الوطنية، والتي تنزع عن الدولة والمواطن أية صفة عقدية، وتجعله ينتمي الى الجنسية فقط، أي جنسية البلد الذي يحمله، وينصره في كل الأحوال، سواء حكم الوطن ادوارد الخامس أو هتلر أو موسوليني أو فرانكو أو صدام.
وليس من الضروري أن يكون الإنسان منتمياً عضوياً أو عقدياً الى هذه الايديولوجيات، لكي يتبنى أفكارها، لكنه واقع تحت تأثيرها في وعيه أو في عقله الباطن، حتى تراه يردد أفكارها ومفاهيمها ومصطلحاتها دون أن يعي ذلك أحياناً. وبالتالي؛ فإن كل إنسان ينطلق من مرجعيته العقدية والفكرية في النظرة الى الأمور والمفاهيم والمصطلحات، أو من تأثير هذه المرجعية في وعيه وفي عقله الباطن، أي أن الذي يتمسك بمرجعية الإسلام العقدية والفقهية، ينظر الى مفهوم الانتماء والهوية الوطنية والمذهبية، وتنظيم الأولويات؛ نظرة مختلفة عن الشخص الذي ينطلق من مرجعية أرضية، بعثية أو قومية عنصرية أو وهابية تكفيرية أو علمانية. ولكن؛ يبقى أن الاختلاف حول المرجعية الفكرية، ومن ثم الاختلاف في المفاهيم بين الناس، لايسمح لأي شخص باتهام الآخر بالخروج عن الدين أو عدم الوطنية؛ فكلا التهمتين تنطلقان من فكر تكفيري، أحدهما التكفير الديني والآخر التكفير العلماني.
ـــــــــــ
https://telegram.me/buratha