الدكتور علي زناد كلش البيضاني ||
تطالعنا عادةً أحكام صادرة من النبي ( ص وآله ) والأئمة الأطهار (ع) تُقرر في مكان بحكم مُعين ونراها تتغير في زمان ومكان آخر ، يتصور البعض إنّها تناقض أو اكتشاف خطأ في الحكم السابق ، الأمر ليس كذلك إنما تابع لتطور الحالة الزمانية وتغير المكان الذي يتوجب تغيير الحكم بتغير الموضوع ليتلائم مع التطور الحاصل ، وهذا من نتاج مرونة الأحكام الإسلامية وعدم جمودها على النص ، ولم يقتصر ذلك على النبي ( ص وآله ) والأئمة الأطهار (ع) وإنما يتعداه للعلماء ، فالاجتهاد مفتوح الباب في المدرسة الشيعية ، يتقدّم ويتطوّر بتقدّم العلم وتطوّر الزمان ، فيزاد على ثروته العلمية والعملية ، وتثرى مباحثه ومحتوياته بين آونة واُخرى ولا يعني تغيير في الأحكام الثابتة القطعية في الشريعة الإسلامية ثوابت ومتغيّرات ، فلا بدّ حين تفسير مدخلية الزمان والمكان ففي الاجتهاد ينبغي ملاحظة الثوابت ، وأنّه لا تعارض بين الاجتهاد المذكور وبين الاُصول المسلّمة في التشريع الإسلامي.
وإذا كان هناك إشكال على مدخلية الزمان والمكان في تغيير الأحكام فمعنى ذلك إننا نُشكل على وقوع النسخ في القرآن الذي تتبدل أحكام آياته تبعاً لتطور الحالة الزمانية والمكانية .
وسنقتصر هنا على نموذجين الأول للنبي محمد (ص وآله ) والإمام علي (ع) والثاني للإمام الصادق (ع) :
أولاً : نقرأ في الأحاديث النبوية قول الرسول الأكرم (ص وآله ) " تناكحوا تناسلوا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة " وفي موضع آخر يقول الإمام علي (ع) " قِلَّةُ الْعِيَالِ أَحَدُ الْيَسَارَيْنِ " ، الناظر للوهلة الأولى يُفسّر ذلك بوجود تناقض بين قول النبي محمد (ص وآله ) والإمام علي (ع) ، لكن بمطالعة المرحلة الزمانية وتدخلّها في تغيير الظروف كفيل بتغيير الخطاب ، فقول النبي ( ص وآله ) كان في بداية الدعوة الإسلامية وكان بحاجة إلى الزيادة العددية الكميّة للمسلمين لكي تكون هناك حالة توازن مع الأعداء ، فالظرف الزماني كان حاكماً في إيراد هكذا أقوال ، بينما في زمن الإمام علي (ع) تغير الحال فقد تغيرت الظروف واتسعت الدولة الإسلامية وأصبح للتنظيم الاقتصادي دوراً في تحديد أعداد المجتمع ، فمسألة الزيادة العددية التي كان ينشدها الرسول الأكرم ( ص وآله ) قد انتفت زمانياً في عهد الإمام علي (ع) بل بالعكس نجد إن التقنين العددي في التناسل أصبح موجباً ليتناسب مع واردات الدولة بما توفره من عطاء بعد اتساع رقعتها .
ثانياً : هناك حديثان للإمام الصادق (ع) أيضاً الناظر لهما دون تدقيق في العلّة يحمل الحديثين على التناقض ، لكن تغير لظرف الزماني كما يسمى بين التضييق والانفتاح ، وإليك ما ذكر عن في الحديثين :
الأول : عن الإمام الصادق (ع) قوله لمعلى بن خنيس " يا معلى اكتم أمرنا ولا تذعه، فانه من كتم أمرنا ولم يذعه أعزه الله به في الدنيا وجعله نورا بين عينيه في الآخرة، يقوده إلى الجنة، يا معلى من أذاع أمرنا ولم يكتمه أذله الله به في الدنيا ونزع النور من بين عينيه في الآخرة وجعله ظلمة تقوده إلى النار".
الثاني : قول الإمام جعفر الصادق(ع) للفضيل بن يسار (( تجلسون وتتحدّثون ؟ فقال الفضيل : نعم :: فقال الإمام الصادق(ع) إنّ تلك المجالسُ أحُبّها أحيوا أمرنا فرحم ألله من أحيا أمرنا فإنّ من جلس مجلسا يُحيى فيه أمرنا لم يمُت قلبه يوم تموت القلوب ".
لا يوجد تناقض بين القولين وإنما حاكمية الزمان وتوجه السلطة هي من تحدد قول الإمام الصادق (ع) ويقرر مصلحة الأمة في عدم تعريضها للسوء ، ففي الحديث الأول نجد تشديد السلطات الحاكمة وتتبع وتعقب أتباع الأئمة (ع) للنيل منهم فكان قول الإمام الصادق (ع) هو للمحافظة على أرواحهم وعلى القاعدة الشيعية من الهلاك .
أما الحديث الثاني فمرهون بتبدل الظروف وهذا ما وجدناه في استثمار الإمام الصادق (ع) لمرحلة انتهاء الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية فانشغال الأمويين بأنفسهم ومراعاة العباسيين للإمام الصادق ع كونهم رفعوا شعار الرضا من آل محمد أتاح هذا الظرف إمكانية نشر علوم أهل البيت (ع) نتيجة ضمان عدم التعرض لهم بسوء ، فهو تحديد لطبيعة الظروف وبإزاء ذلك يتم تقييم الأمور وإصدار الأحكام
ـــــــــــ
https://telegram.me/buratha