طالب رحمة الساعدي ||
(محمد شرف الدين)
الخطوة السادسة : اُسس الحضارة الاسلامية
في هذا المبحث نستنطق القران الكريم لنحصل على اهم الاسس التي تقوم عليها الحضارة الاسلامية ، ولو بشكل موجز تماماً .
فاذا رجعنا وطالعنا احدى سوره القصار التي لا تتعدى اياتها عدد ثلاثة ، ألا وهي سورة العصر ، التي أجمع المفسرون على انها من السور المكية ، وكما هو معروف ان القسم المكي من السور القرانية يمتاز بان سوره تحتوي على اساسيات وركائز الدين الاسلامي ، بينما يمتاز القسم المدني من السور بانه يحتوي على اغلب التشريعات والتعاليم الدينية ،
فعليه تكون سورة العصر احدى السور التي تشير الى ركائز الدين والحضارة الاسلامية ، فلذا ينبغي التدبر والتمعن في تفسيرها حتى نصل الى اسس الحضارة الاسلامية .
سورة العصر
" وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْر * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر"
في بداية هذه السّورة نواجه قسما قرآنيا جديدا، يقول سبحانه:
وَ الْعَصْرِ.
كلمة (العصر) في الأصل الضغط، و إنّما اطلق على وقت معين من النهار لأنّ الأعمال فيه مضغوطة. ثمّ أطلقت الكلمة على مطلق الزمان و مراحل تاريخ البشرية، أو مقطع زماني معين، كأن نقول عصر صدر الإسلام. و لذلك ذكر المفسّرون في معنى العصر احتمالات كثيرة:
1- قيل: إنّه وقت العصر من النهار، بقرينة وجود مواضع اخرى أقسم اللّه فيها بأوّل النهار كقوله تعالى: وَ الضُّحى أو وَ الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ .
و إنّما أقسم بالعصر لأهميته، إذ هو في وقت من النهار يحدث فيه تغيير في نظام المعيشة و حياة البشر، الأعمال اليومية تنتهي، و الطيور تعود إلى أوكارها، و قرص الشمس يميل إلى الغروب، و يتجه الجو إلى أن يكون مظلما بالتدريج.
هذا التغيير يلفت نظر الإنسان إلى قدرة اللّه المطلقة في نظام الكون، و هو في الواقع أحد علامات التوحيد، و أية من آيات اللّه تستحق أن يقسم بها.
2- قيل: إنّه كلّ الزمان و تاريخ البشرية المملوء بدروس العبرة، و الأحداث الجسيمة. و هو لذلك عظيم يستحق القسم الإلهي.
3- بعضهم قال: إنّه مقطع خاص من الزمان مثل عصر البعثة النبوية المباركة، أو عصر قيام المهدي المنتظر عليه السّلام، و هي مقاطع زمنية ذات خصائص متميزة و عظمة فائقة في تاريخ البشر. و القسم في الآية إنّما هو بتلك الأزمنة الخاصّة .
4- بعضهم عاد إلى الأصل اللغوي للكلمة، و قال إنّ القسم في الآية بأنواع الضغوط و المشاكل التي تواجه الإنسان في حياته، و تبعث فيه الصحوة و توقظه من رقاده، و تذكره باللّه سبحانه، و تربّي فيه روح الاستقامة.
5- قيل: إنّها إشارة إلى «الإنسان الكامل» الذي هو في الواقع عصارة عالم الوجود و الخليقة.
6- و أخيرا قيل إنّ الكلمة يراد بها صلاة العصر، لأهميتها الخاصّة بين بقية الصلوات، لأنّها (الصلاة الوسطى) التي أمر اللّه أن يحافظ عليها خاصّة.
مع أنّ التفاسير أعلاه غير متضادة، و يمكن أن تجتمع كلّها في معنى الآية، و يكون القسم بكل هذه الأمور الهامّة، و لكن الأنسب فيها هو القسم بالزمان و تاريخ البشرية. لأنّ القسم القرآني- كما ذكرنا مرارا- يتناسب مع الموضوع الذي أقسم اللّه من أجله و من المؤكّد أن خسران الإنسان في الحياة ناتج عن تصرّم عمرهم، أو أنّه عصر بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّ المنهج ذا المواد الأربع في ذيل هذه السّورة نزل في هذا العصر.
و " كون العصر بمعنى الدهر والزمان فالمراد به، تاريخ البشرية، وهذا هو المتبادر إلى الذهن. ويؤيّد ذلك أمران :
1- أنّه سبحانه جعل المقسم له كون الإنسان في خُسر، إلاّ طائفةً خاصّة، ومن المعلوم أنّ خُسران الإنسان ـ كما سيوافيك ـ يتجلّى في مَن تصرّم عمره ومضى زمانه دون أن ينتفع بأغلى رأس مال وقع في يده.
2- أنّ أكثر الناس يتّهمون العصر بالخسران ويسبّونه، فجاء القسم بالعصر والإجابة بأن الإنسان لفي خسر، مشعراً بأنّ الدهر ليس بخاسر وإنّما الخاسر هو الإنسان ."
و طبقاً – لهذا - المعنى لهذه الكلمة فإنّ المراد من كلمة «العصر» في هذه الآية مجموع التاريخ البشري منذ بداية الخلقة إلى نهاية عمر الدنيا، حيث يجمع فيه الحوادث والوقائع كلها بشكل مضغوط، وبما أنّ التاريخ مرآة يستوحي منه الإنسان العبر والدروس، فلذا أقسم اللَّه تعالى بمجموع تاريخ البشرية.
إن الإنسان بإمكانه أن يستوحي جميع دروسه اللازمة في حركة الحياة من التاريخ، فعناصر السعادة، وأسباب النصر، وثمار الوحدة والاتحاد، والافرازات السلبية للاختلاف والفرقة، وكيفية الاستفاده من الفرص، وعواقب الغفلة عن هذه الفرص، وأمثال ذلك، كلها يستطيع الإنسان استخراجها من ثنايا التاريخ ويجعلها نصب عينيه في حركة الحياة والواقع.
الإمام علي عليه السلام في كتابه القيم الذي يعكس في مضامينه دورة كاملة للأخلاق الإسلامية، يقول لابنه الإمام الحسن المجتبى عليه السلام:
«أَىْ بُنَيَّ، إِنِّي وَ إِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَ فَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَ سِرْتُ فِي آثَارِهِمْ؛ حَتَّى عُدْتُ كأَحدِهِمْ. بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ نَخِيلَهُ وَتَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ، وَصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ» .
ويكفي في أهميّة التاريخ البشري أنّ اللَّه تعالى تحدّث في أكثر سور القرآن عن الأقوام السالفة والشعوب الماضية، فيما يستقي منها الإنسان الدروس الحية والعبر النافعة
ومن اهم دروس التاريخ البشري هو الحضارات التي رافقت السير البشري عبر مراحل بقاءه على وجه المعمورة ، وهذا موضع اهتمام كل انسان عاقل حيث يبحث ويفكر في صفحات تاريخ الماضين لكي ياخذ العبرة والاعتبار من مناهجهم في الحياة ، وهذا اهم ما في وجود الانسان ، فلذا جاء القسم الالهي به، فالحضارات البشرية موضع اهتمام عند الانسان بصورة عامة لما تحويه من ايجابيات وسلبيات .
(إن الإنسان لفي خسر)
هذه الخسارة الحتمية التي تقررها سورة العصر (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ)، هي خسارة العمر .. وكلما ينقص من عمر الإنسان ساعة يخسر صاحبها شطراً من رأس ماله الذي آتاه الله، والتعريف باللام في (الإنسان) للاستغراق، أي كل الناس.
وقد عرفنا ...... أن عمر الإنسان هو رأس ماله الذي قدّره الله تعالى له في الحياة الدنيا، فاذا مضت من عمره ساعة، دون أن يستغلها فقد خسر شطراً من رأس ماله.
وهذه الخسارة مستمرة متصلة في حياته .. في كل ساعة وكل دقيقة، بل في كل ثانية، بصورة تدريجية انسيابية.
فإنّ بالإمكان أن يحسب الإنسان كم يعيش من الثواني في هذه الدنيا اذا رزقه الله ثمانين سنة من العمر، فهي كمية محدودة من الدقائق والثواني، على كل حال .. يمكن حسابها بعملية حسابية بسيطة. وعندئذ مهما انصرم من عمر الإنسان دقيقة أو ثانية يخسر شطراً من رأس ماله الذي لا يعوّض.
ومن أغلاط الواهمة عند الإنسان أنه يتصور أنّ الأيام والليالي والأشهر والفصول والسنين تتكرر في حياته .. وهو ليس بتكرار. إنّ كل شطر ينقص من عمر الإنسان لن يعود إليه، ولن يتكرر في حياته، واليوم ليس تكراراً لغد، وهذه السنة ليست تكراراً للعام الذي مضى، وإنما هي أجزاء من عمر الإنسان تتفتت وتتقطع وتستهلك مع الأسف، من غير أن يستغلها الإنسان، وتذهب من غير رجعة ..
وتتساقط من عمره هذه الاجزاء جزءاً بعد جزء، وتستهلك بصورة تدريجية مستمرة، وهذا هو نزيف العمر القاتل، وهو شرّ أنواع النزيف في حياة الإنسان. والإنسان في غفلة من ذلك، فإذا نفذ آخر جزء من عمره يفيق عند ذلك من هذه الغفلة القاتلة.
فيتمنى أن يعود إلى الحياة الدنيا مرة أخرى، عارفاً قيمة ما فرط فيه من عمره، ليستغلّ هذه المرة رأس المال الذي منحه الله من العمر في طاعته، من غير غفلة، يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة، فيكون الجواب كلّا.
فـ"الآية الكريمة التي نحن بصددها تقول: كلّ النّاس في هذه السوق الكبرى خاسرون إلّا مجموعة تسير على المنهج الذي تبيّنه الآية التالية"
وبناءً على ذلك فإنّ عامة الناس في التاريخ، وعلى وجه الارض، يخسرون أعمارهم كلها أو شطراً منها من دون مردود مكافئ من الإيمان والعمل الصالح.
فحالة التناقص في الإنسان حالة حتمية، ولا سبيل لأحد إلى إيقاف هذا التناقص. العمر في تناقص، والشباب في تناقص، والصحة في تناقص والادراك في تناقص (وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ).
ولكن من الممكن أن يتحول هذا التناقص إلى ربح، وذلك عندما يكسب الإنسان بالعمر النافذ المستهلك: الإيمان، والعمل الصالح، وابتغاء الحق، والتواصي به، والتواصي بالصبر على الحق .. عندئذ يتحول التناقص في العمر والشباب إلى تكامل في الإنسان.
وفي غير هذه الصورة فإن التناقص في العمر والشباب والسلامة يتحول إلى (خُسْر) وهي للأسف القاعدة العامة في حالات الناس (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ).
وأما الذين يعرفون كيف يحوّلون التناقص إلى التكامل بالإيمان والعمل الصالح وابتغاء الحق فأولئك قلّة من الناس، في حدود الاستثناء من تلك القاعدة (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ).
ولهذه الحالة العامة الغالبة من الخسران استثناء لا يدخل في دائرة الخسران التي يدخل فيها عامة الناس، وهو
(الَّذِينَ آمَنُوا، وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ، وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ).
فتكون اسس الخروج من عموم الخسران عبارة عن اربعة امور ، وهي :
1- الايمان .
2- العمل الصالح .
3- التواصي بالحق .
4- التواصي بالصبر.
وكل واحد من هذه الاسس يحتوي على ايديولوجية واستراتيجية معينة ، كلها تكوّن بمجموعها سعادة الانسان – على المستوى الفردي او المجتمعي – ورقيه في جميع جوانب الحياة ، وهذا عبارة اخرى عن الحضارة .
ــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha