الشيخ طالب رحمة الساعدي ||
(محمد شرف الدين)
رحلة تدبّرية مع خطاب " ايها الذين امنوا ....." في مضان بعض التفاسي
القاعدة الثانية : التقوى والصدق .
وهنا عدة نقاط:
الاولى: في معنى التقوى
التقوى و هو نوع من الاحتراز إذا كان تقوى الله سبحانه كان تجنبا و تحرزا من عذابه كما قال تعالى: «فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ»: البقرة- 24، و ذلك إنما يتحقق بالجري على ما يريده و يرتضيه فهو امتثال أوامره تعالى، و الانتهاء عن نواهيه، و الشكر لنعمه، و الصبر عند بلائه، و يرجع الأخيران جميعا إلى الشكر بمعنى وضع الشيء موضعه و بالجملة تقوى الله سبحانه أن يطاع و لا يعصى و يخضع له فيما أعطى أو منع.
وذهب السيد السبزواري الى ان " التقوى هي الطاعة للّه تعالى و الاحتراز عن الوقوع في ما يوجب سخطه و عذابه و يلزم ذلك الشكر لنعمه، و انما أمرهم بالتقوى لأنها جوهرة الكمالات الانسانية و مفتاح السعادة و أساس مكارم الأخلاق و بها يفوز العبد بالقرب إلى اللّه تعالى و البعد عن النار و هي تحفظ ايمان المؤمن و تزيده قوة و ثباتا.
وفيكون المراد من التقوى هو العمل وفق المعايير الربانية ، والتعاليم الإلهية .
الثانية: كونوا مع الصادقين
و قد احتمل المفسّرون احتمالات مختلفة في المقصود من الصادقين، و من هم؟
إلّا أنّنا إذا أردنا اختصار الطريق، يجب أن نرجع إلى القرآن الكريم نفسه الذي فسّر معنى الصادقين في آيات متعددة.
فنقرأ في سورة البقرة، الآية (177): لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.
فنحن نرى في هذه الآية أنّها بعد نهي المسلمين عن البحث و المناقشة حول مسألة تغيير القبلة، تفسر لهم حقيقة العمل الصالح و البر بأنّه الإيمان باللّه و يوم القيامة و الملائكة و الكتب السماوية و الأنبياء، ثمّ الإنفاق في سبيل اللّه و مساعدة المحتاجين و المحرومين، و إقامة الصلاة، و إيتاء الزكاة، و الوفاء بالعهد، و الاستقامة و الصمود أمام المشاكل حين الجهاد، و بعد ذكر كل هذه الصفات تقول: إنّ الذين يمتلكون هذه الصفات هم الصادقون و هم المتقون.
الثالثة: تكرار التقوى
أن المراد بهذه التقوى المأمور بها ثانيا هي التقوى في مقام المحاسبة و النظر فيها من حيث إصلاحها و إخلاصها لله سبحانه و حفظها عما يفسدها، و أما قوله في صدر الآية: «اتَّقُوا اللَّهَ» فالمراد به التقوى في أصل إتيان الأعمال بقصرها في الطاعات و تجنب المعاصي.
و من هنا تبين أن المراد بالتقوى في الموضعين مختلف فالأولى هي التقوى في أصل إتيان الأعمال، و الثانية هي التقوى في الأعمال المأتية من حيث إصلاحها و إخلاصها.
إنّ تكرار الأمر بالتقوى هنا تأكيد محفّز للعمل الصالح، كما أنّ الرادع عن ارتكاب الذنوب هو التقوى و الخوف من اللّه تعالى.
الرابعة: التقوى الفردية والاجتماعية (الجمعية)
في التقوى الفردية ينبغي أن يجعل كلّ واحدٍ منّا نفسه تحت المراقبة الدائمة. التقوى الكاملة هي أن يجعل الإنسان نفسه تحت المراقبة بصورة دائمة؛ كالذي يتحرّك في فناءٍ مليء بالأشواك المؤذية وهذا المثال موجودٌ في الروايات أيضًا وكذلك في كلمات العظماء حيث ينبغي أن يكون حذرًا دومًا؛ فينظر تحت قدميه لأنه إذا غفل فإنّ الأشواك ستخترقه وتمزّق ثيابه وتجرح قدميه. شُبّهت التقوى بالحركة في حقل الأشواك. حسنًا، هذه هي التقوى الفردية، وهي ضرورية؛ وطريق الوصول إلى الفوز والفلاح هو هذا فقط. لو أراد الإنسان أن يصل إلى الفلاح والفوز والنجاة الأبدية فعليه أن يصل إلى التقوى. وكلّما ازدادت هذه الحال ازدادت [فرص] الفوز والفلاح.
ولدينا تقوى جماعية. التقوى الجماعية هي أن تراقب الجماعات نفسها، أن تراقب الجماعة نفسها -من حيث كونها جماعة- . فعدم مراقبة المجموعات أنفسها كمجموعة يؤدّي إلى زلل الأقدام، حتى لمن لديهم تقوى فردية ضمن الجماعة، بسبب هذه الحركة العامة لهذا الجمع، فيصلون إلى حيث لا يريدون. وطوال هذه السنوات الثلاثين تلقّينا ضربات من هذه الجهة. وكان هذا أحد الجوانب التي أظهرنا فيها الضعف.
يجب على أي شعب أن يكون متنبّهًا بشكل جيّد ليعلم أين يضع قدميه ـ وهذه هي التقوى الجمعيّة ـ وليعلم ما ينبغي أن يقوم به، وليلتفت من أين يمكن أن تأتيه الضربة. فإذا كنّا أتقياء في العمل الفرديّ فسنراقب أعمالنا وسنراقب أنفسنا، فلا نضع أقدامنا في المنزلقات والمواضع التي يخشى السقوط فيها.
هذا هو الأمر المطلوب.
أما التقوى الاجتماعية فهي تعني أن يتّسم التعامل مع الناس في مختلف الأوساط -سواء في محل الكسب أو في المعاشرة أو في الوسط العائلي أو المدرسي والجامعي أو الوظيفي- بالإنصاف والخشية من الله والأمانة والصدق. وإذا ما تحققت هذه المثل في المجتمع وطُبقت عمليًّا ستجد أغلبُ مشاكل الناس الماديّة والمعنوية طريقها إلى الحلّ. فالتقوى والورع إنما تعني الامتداد الواسع للأعمال الصالحة، والمبادرات الخيرة، للأفعال الحسنة والتروكات الحسنة.
لا فرق بين التقوى العامة والاجتماعية وبين التقوى الفردية؛ ففي التقوى الفردية -والصوم هو للتقوى، وشهر الصيام شهر اكتساب التقوى- من يلتزم بالتقوى، يحصل على صيانة وحصانة داخلية، كالذي يتحصّن بالتلقيح، بحيث إذا دخل بيئة ملوثة بالجراثيم، لا يتأثر بها، وهكذا هي التقوى؛ فإنها تحول دون أن تؤثر عليكم البيئة الخارجية أو تحول دون أن تترك أثرها عليكم بسهولة على أقل تقدير. هذه هي التقوى الفردية. وكذلك الحال في التقوى الوطنية، فلو قام شعب بتقوية نفسه من الداخل، وتقوية علمه وصناعته وإيمانه وثقافته، لا يمكن للقوى الخارجية أن تترك أثرها عليه. هذه هي الخطّة التي يجب علينا جميعًا وكذلك على العالم الإسلامي العمل بها.
ــــــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha