أ.م.د. علي زناد كلش البيضاني ||
لا شك بأن الجميع يسعى للحقيقة والوصول إليها ، وأُن أُختلف في مداليلها ، والوسائل والطرق المؤدية لها ، لكن في إطار معرفة الحقيقة ضمن الفلسفة اليونانية شكّل التباين بين العلماء من أهم السمات البارزة في تناولهم للحقيقة ولنا أن نعرض قول بروتاغوراس زعيم الفكر السوفسطائي في القرن الخامس قبل الميلاد في بيان فهمه للحقيقة .
إذ قال: " إن الإنسان مقياس كل شيء والحقيقة إنما تُدرك بالإحساس المباشر نفسه ، أي أن الإحساس هو معيار الحقيقة ، فالحقيقة هي ما تراه وتسمعه وتلمسه وتذوقه وتشمه ، وإذن فإن معرفة الحقيقة ميسورة للناس جمعيا ".
إن ما ذهب إليه بروتاغوراس لا يمكن قبوله أو على الأقل القبول بإقتصار الحواس كمعيار مؤدي للحقيقة وذلك لعدة أسباب منها :
أولاً : لا يمكن الاقتصار على جانب واحد في معرفة الحقيقة بل هناك عدة جوانب أصيلة و مساعدة تشترك كفريق مع الحواس بل وتصوب الأخير عند تناقضاته ، لا سيما وأن الحقيقة من المفاهيم المُعقّدة كما عرضها لالاند في موسوعته الفلسفية بتعريفات عدة منها (الحقيقة هي خاصية كل حق أو ما تمت البرهنة عليه أو هي القضية الصادقة أو انها المعرفة الشاملة و الكاملة بالواقع ) إذ لم يكن بوسع الحواس بمفردها أن تكون قادرة على إدراك كنه الحقيقة .
ثانيا ً : من المتعارف عليه أن التركيز الحواسي قابل للخطأ في تحقيق صور ذهنية غير صادقة بل تتسم بالتناقض في بعض الأحيان ، فالتوهم واختلاق صور لا وجود لها غالباً ما نجده حاضراً في هذا المجال، وهذا ما نعرفه بمصطلح عُقّال العين ـ الذي سنتعرض له في مقال إن شاء الله ـ .
ثالثاً : هناك تفاوت في مستوى قوة وضعف الحواس عند الناس فهل من الممكن أن تكون التقييمات والتصورات الذهنية المنبعثة من الحواس تُشكّل أساساً واحداً ؟ وهذا التفاوت يمكن أن يُوظّف في الرد على ما قاله بروتاغوراس في آخر كلامه (معرفة الحقيقة ميسورة للناس جمعيا ) ، فإذا كانت الحقيقة ميسورة لمن يتخذ الحواس معيار للحقيقة أصبح كل سكان الأرض ما يقارب 6 مليارات نسمة هم عارفي الحقيقة وعلماء ولا مكان للجهل بينهم ، فتنتفي بذلك بعثة الأنبياء للناس ، لأن فلسفة بعثة الأنبياء هي لإخراجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم والإيمان فتصبح القضية سالبة بانتفاء الأصل ، ويصبح كلام القران الكريم والاحاديث النبوية في فضل العالم على الجاهل لا مكان له ولا أهمية ، لأن الحقيقة والعلم أصبحت في متناول الجميع .
رابعاً : إذا كان الحواس من بصر وسمع وذوق وشم ولمس معياراً للحقيقة فما بالك من كان مُصاباً بخلل أو فاقداً لأحد مرتكزات الحواس هذه ، هل تتعطل لديه معرفة الحقيقة كاملة أو نصفها أو لا تتعطل أصلاً ؟ فمن فقد حاسة من الحواس فقد فَقَدَ علما من العلوم ، وإذا كان التقرير بذلك فلنا أن نسأل الفيلسوف بروتاغوراس عما كان للكثير من العلماء فاقدي الحواس وأثروا العالم بمؤلفاتهم وعلمهم التي زخرت بها المكتبات العلمية ، وتعرض الجاحظ لذلك في كتاباته.
خامساً : المعارف الإدراكية التي تستند على الحواس لا يمكن الإتكاء عليها بسبب التمويه والتناقض الحاصل من خطأ الحواس وهذا ما أكده القرآن في قضية تشبيه أعمال الكفار كرؤية شكل الماء للناظر من بعيد فإذا وصل إليه لم يجده شيئا " وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا " فهذا أكبر دليل على خطأ الحواس ولا يمكن الاعتماد عليها بمفردها .
سادساً : التمثل الحسي للظواهر والملاحظة المباشرة لها في الوصول للجوهر غالباً ما تتأثر بالقناعات والقبليات الانتمائية للشخص تلقي بظلالها على مستوى الحكم والتصديق للقضية .
سابعاً : لما كانت المعرفة بالحواس التي يقصدها بروتاغوراس ويتبناها في الأصل هي نسبية لذلك فالمعرفة سوف تصبح نسبية ، وأيضاً ترتب على
ذلك انه لا يوجد معيار ثابت للحقيقة أو الصواب والخطأ، لذلك اكد على انه ما تراه حق فهو حق بالنسبة لك وما تراه باطلاً فهو باطل بالنسبة لك ، أي أن الخير والشر الصح والخطأ، كلها يجب أن تُحدد بحسب حاجات الكائن البشري ، عندها سيدخل العالم في فوضى لا نهاية لها عندما يصبح الكل على حق من وجهة نظره ، وتصبح القيم المطلقة كالخير والجمال وغيرها كلها نسبية ، وقد خالفه ارسطو في هذا إذ قال بوجود حقيقة ثابثة مفارقة لهذا العالم ، فكل شيء فيه عبارة عن جوهر – ماهية – و صورة ، و الجوهر هو الحقيقة الثابتة التي يجب على المفكر ان يصل اليها و ان يدركها في شكلها المطلق ، لانه حقيقة لا حقيقة فوقها ، فلكي يوجد الشيء لا بد له من جوهر كنقطة بداية ، هدا الشيء الجزئي المفرد الموجود خارج العقل الدي له صفة مادية لا بد ان توجد له صورة.
ثامناً : ما ذهب إليه يُعطّل أو بالأحرى يلغي دور العقل ويصبح المُتسيد في التقريرات وإصدار الأحكام هي الحواس ، عندها تكون الحواس هي القائد للفرد لا عقله ، ولا أعلم بماذا كرم الله عز وجل الإنسان عندما قال في القرآن " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ " أليس بعقله ؟! .
تاسعاً : لنا أن نسأل بروتاغوراس ما المائز بين الإنسان والحيوان أليس منظومة العقل ، فإذا كانت الحواس هي الأصل عند الإنسان فالأجدر أن تتغلب عليه بعض الحيوانات لأن هناك بعض الحيوانات أقوى حواساً من الإنسان ، فحاسة البصر عند الطيور أقوى من الإنسان بدلالة أحد التقارير العلمية التي تؤكد على ان شبكية العين البشرية تحتوي على حوالي ٠٠٠,٢٠٠ خلية بصرية في المليمتر المربع، لدى معظم الطيور ثلاثة اضعاف هذا العدد؛ اما الصقور والنسور والعقبان فلديها مليون او اكثر في المليمتر المربع ، وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي لا يسع المج لذكرها .