*د. محمد أبو النواعير ||
· كيف يؤثر الخطاب الديني في تكوّن أنماط المعرفة السوسيولوجية في مجتمعات المذاهب الإسلامية؟!
لقد انقسم الخطاب الديني الاسلامي خلال التأريخ إلى انواع مختلفة, وتختلف بحسب مناشئها الفكرية والمذهبية, ومقدار تداخل التأثير السلطوي أو السوسيلوجي فيها.
ولكن وعلى العموم فإن أبرز مدرستين للخطاب الديني تمثلتا بتوجهين عامين, هما المدرسة الشيعية الإمامية الإثني عشرية, المدرسة السنية بفرعها العام, والسلفي.
تأثر الخطاب الديني الرسمي للمدرسة السنية بمؤثرات الفعل السلطوي والسياسي, وتداخل هذا الفعل مع كل موارد المعرفة المجتمعية, قاد إلى ان تذبذب هذا الخطاب وتبعيته للسلطة الحاكمة وخروجه من محددات وضوابط العقلانية القرآنية التي فرضها الله على العباد, إلى التحول نحو الصيغة التبريرية في الخطاب الديني, الذي ساهم في بناء سوسيولوجيا معرفة مشوهة , وأدى لخلق مجتمعات تكفيرية او تباعدية, تطورت بعدها لتكون مشاريع تصادمية مع سلطاتها الدنيوية, ومع المختلف عنها فكرا ومنهجا وطريقة.
نتيجة لهذه الإنحرافات, برز الفكر العربي المعاصر, والمتأثر بادوات المنهجة السوسيولوجية والهيرمونطيقية الغربية, ليفكك هذا الخطاب السلطوي, ويحيله إلى أدوات اشتغال غربية, عمد من خلالها لا إلى ضرب أسس هذا الخطاب, بل إلى اجترار العداء الغربي نحو الدين إلى ساحات الفكر الاسلامي المعاصر ومن أهم المناهج التي أستخدمت من قبل أولئك الكتاب والمفكرين المعاصرين هو منهج التأريخية, أو التأريخانية.
والتاريخية من أهم مضامين الخطاب الحداثي ومحاولات تأسيسها من أهم أهداف هذا الخطاب ، فالنظرة التفاضلية للنص كانت إحدى أهم الوسائل من أجل تحقيق هذا المبتغى . والتاريخية نزعة يرى أصحابها نسبوية القوانين الاجتماعية والحكم بوضعيتها وتعرف بأنها مذهب يقرر نسبية القوانين الاجتماعية واتصافها بالزمكانية ، وأن القوانين من نتاج العقل البشري الجمعي ، وتسحب ذلك على الأديان أيضا . فالتاريخية إذن اتجاه يحكم بعدم شمولية القوانين المختلفة وحتى الأحكام الشرعية ، فترتب على ذلك القول بتاريخية النص الديني ، أي أنه نسبي فيما تضمن من أحكام ، ونسبي فيما أرسى من تصورات ومسائل عقدية ، ونسبي فيما حث عليه من أداب وأخلاق ، وبالتالي فهو صالح لبيئته الاجتماعية في زمان ومكان خاص بها, لا غير .
ونتج عن ذلك النداء بالعلمانية في مجال السياسة والحكم كأهم رؤية قريبة تشكلت عن مقدمات سبقت ، فحدث شرخ كبير في الفكر الإسلامي ، ساعد الخطاب الحداثي وبعض القراءات التراثية في اتساعه إلى حد بعيد ، إلى درجة الانفصال عن النص الديني ، ورفضه كمرجعية أساسية لمختلف انشغالات الحياة المسلمة ، مبررين ذلك بأنه نتيجة طبيعية لقراءة ابستيمولوجية لهذا النص والتمعن في هذه النتائج يؤكد لنا إفرازات توظيف بعض المناهج ؛ أي أن هذا النص قد قرأ من خارج ، بمناهج مستوردة منقولة وليس بمناهج أصيلة ، ومقتضياتها لا تتناسب مع مقتضيات الممارسة التراثية ولا مع الاجتهاد الديني .
وهذا التيار الذي يشتغل بهذه المناهج ويسلك هذه الرؤية يشكله جماعة من المفكرين برزوا كمفكري العصر مثل : محمد أركون ، نصر حامد أبو زيد ، محمد عابد الجابري.. الذين تبين كتاباتهم أنهم قرأوا النص الديني من خارجه ، وبادوات ومناهج غريبه عنه كمناهج : غاستون باشلار ، میشال فوكو ، جاك دريدا وغيرهم من مفكري الغرب وفلاسفته الذين تميزوا بابحاثهم في هذا الميدان خاصة بعد تأسيس المدرسة البنيوية التي كان لها منهجها الخاص في دراسة النصوص الدينية وغير الدينية ، وكيف أنها تمارس التأويل وتنتصر إليه . وبعد تأسيس فلسفة العلوم أيضا التي كانت المناهج الابيستمولوجية اهم مسالكها، لانها في زعم اصحابها تمثل السبيل الامثل لتجاوز العقل الميتافيزيقي واللاهوتي ولإرساء قواعد التفكير الوضعي.
يجادل أركون أن الحقيقة في الإسلام – وبعكس الاعتقاد السائد- لم تتجسد كلياً ، أو كما يجب في التاريخ إلا لفترة وجيزة ، على الرغم من أن جميع الفرق والمذاهب الإسلامية تتنافس وتصطرع في سبيل امتلاك هذه الحقيقة الخاصة بجوهر الدين أو الإسلام . وما ادعاء القول بحقيقة ” إسلامية متعالية وجوهرية مستمرة على مدار التاريخ وحتى اليوم ، إلا وهماً لا علاقة له بالحقيقة والواقع ، ولهذا فقد وجد نفسه بإزاء مشكلة الحقيقة في نظرية المعرفة الدينية الخاصة بالإسلام وتراثه متشككاً معرفياً ، في ما يزعمه أصحاب الخطاب الديني ، بخصوص امتلاكهم الحقيقة والمعنى المكتملين في الدين والنص المقدس . وكان عزمه الإبستمولوجي قد اقتضاه دراسة العقل الإسلامي المنتج للتراث التفسيري أو التأويلي الخاص باندراج الحقيقة في عالم الإسلام ، طوال تاريخه العقدي والأصولي ، وما تضمنه من أنظمة فكرية تشكلت عبر تاريخ الظاهرة الإسلامية كلها ، ونشطت في عملية استيعاب النص ( القرآن) ، واحيانا امتلاكه ايدولوجيا باسم الدين .
فكانت هذه الانتقادات أن أدت إلى تكوين رؤى كثيرة إزاء الموروث الإسلامي وقبل ذلك إزاء نصوص الوحي تحديدا باعتبارها الجانب المقدس في الإسلام فكان القول بتاريخية النص الديني الإسلامي . ـ طبعا كانت الغاية هي محاولة تحرير المعنى والتأويل من كل سلطة سوى سلطة التأويل؛ وهو ما شدد عليه فيلهيم دلتاي عندما أقحم الهيرمينوطيقا في صميم إشكالية العلوم الإنسانية, وتأثر به هؤلاء المفكرين العرب والاسلاميين.
لهذا فهناك مبررات عديدة جعلت من القول بتاريخية النص موضوعا جديرا بالبحث والدراسة لما يشويه من غموض ، ولما يترتب عليه من نتائج خطيرة من منظور إسلامي ، ومن هذه المبررات أولا : إن القول بتاريخية النص الديني مظهر من مظاهر التحديات التي يجابهها العقل المسلم : وذلك من خلال محاولة الخطاب الحداثي بيان أن النص الديني لا يعد أن يكون وضعا بشريا يناسب مرحلة الطفولة العقلية للإنسان ، أو أنه نتاج ثقافي أفرزته أوضاع مقدمة اجتماعية وثقافية معينة غير الأوضاع الراهنة ، مبررين ذلك بأن العقل البشري وصل إلى مستوى جد متقدم من الوضعية التي تجاوز بها هذا العقل الصبغة اللاهوتية التي هي صبغة العقل الديني الذي مرجعيته النص .
وهذه رؤية مادية بعيدة عن روح الإسلام والخطاب الإسلامي ، كما أنها بينة الخطورة لما فيها من دعوة إلى الانفصال عن النص وتصادم مع الدين . ويتجلى القول بالتاريخية أيضا كتحد في محاولات تأويل النص التي تسعى إلى ربط النص بسبب نزوله واعتبار السبب علة لا مناسبة ، ولما كانت الأحكام تدور مع العلل وجودا وعدما ، فإذا غابت العلة غابت وظيفة النص لغياب علتها تلك ، ومن ثم فأحكام القرآن الكريم المختلفة ليست مطلقة ، وقد كان قول بعضهم : أحكام التشريع في القرآن ليست مطلقة ، ولم تكن مجرد تشريع مطلق فكل أية تتعلق بحادثة بذاتها ، فهي مخصصة بسبب التنزيل ، وليست مطلقة وكل آيات القرآن نزلت على الأسباب – أي لأسباب تقتضيها – سواء تضمنت حكما شرعيا أم قاعدة أصولية ، أم نظما أخلاقية ، إنها أحكاما مؤقتة ومحلية تنطبق في وقت محدد وفي مكان بعينه .
هذا الحكم الذي قيل به في مجال الأحكام الشرعية والنظم الأخلاقية والقواعد التي يستعان بها في مجال الاستنباط . سحب أيضا على العقائد في الخطاب الحداثي وهنا تتجلى الخطورة أكثر ، ويبرز التحدي بشكل أقوى وأخطر لأن في ذلك محاولة للانفصال عن العقيدة الإسلامية ، وتأسيس تصور آخر مناهض للتصور الإسلامي ، وهذا ما قال به البعض من خلال التصريح بأن : الخطاب الإلهي ( القرآن ) خطاب تاريخي لا يتضمن معنى مفارقا له إطلاقية المطلق . ثانيا : إن القول بالتاريخية مسعى لتكوين رؤية موازية للرؤية الإسلامية الأصيلة . قد تكون هذه الرؤية امتداد للمركزية الأوروبية .
وقد أفضى القول بتأريخية القرآن وأحكام الإسلام, إلى إحداث قطيعة مع النص الديني, وبالتالي إلى ضرب كل أشكال الخطاب الديني, فالتأريخية تدعو إلى استمداد القيم واتخاذ المرجعيات بالعودة إلى الفلسفات المادية ، التي تجاوزت حسب الخطاب الحداثي المرحلتين اللاهوتية والميتافيزيقية إلى المرحلة الوضعية التي صارت فيها المعرفة تتصف بمختلف خصائص المعرفة العلمية . التي توافق العقل المعاصر بعيدا عن ميثولوجيا اللاهوت . وهذه الرؤية الموازية ليست مشكلة في ذاتها إذا ما تعاملت مع النص الديني الثاني ( = التراث ) إنما تكون مشكلة حينما يكون التعامل مع النص الديني الأول ( = الوحي ) . ولذا فتأسيس مذهب آخر ، أو الاجتهاد وفقا للضوابط المتفق عليها والمختلف فيها عند علماء الإسلام بالنسبة للخطاب الحداثي لا يهم ولا عبرة به : لأنه لا يحقق النقلة النوعية في مجال المعرفة طالما المرجعية تبقى هي هي ، ولذلك يلغي الخطاب الحداثي الفوارق التي وجدت تاريخيا ولا تزال بين المذاهب الإسلامية ، كالفرق بين السنة والشيعة مثلا .
ثالثا : إن القول بتاريخية النص الديني ، قول متهافت لما يحتويه من مفارقات ؛ فمن جهة يتعامل مع نص له خصائصه بمنهج وأليات غريبة عنه ، وهذا غير ممكن لأن الممارسة القرانية المتعلقة بالنص الديني الإسلامي لها آلياتها الأصيلة ، ومن جهة أخرى يبرز التناقض بين المنطلق والهدف في القول بالتاريخية ؛ فمن جهة هو خطاب يرفض الدينية ويعتبرها غير علمية ، ومن جهة أخرى يقف على أرضها وينطلق منها ، وهذه إحدى صور التضارب في الرؤية الحداثية التي تبرز لنا تلفيق أصحابها كما هو الأمر مع نصر حامد أبو زيد الذي يعتبر الإيمان بالوجود الميتافيزيقي للنص يطمس إمكانية فهمه العلمي والقول من جهة ثانية بأن الإيمان بمصدره الإلهي لا يتعارض بإمكانية تحليله وفهمه . وهذا التضارب في الرؤية والموقف جلي مما يبدي عدم استقامة القول بتاريخية النص الديني .
رابعا : إن النص عموما والنص الديني خصوصا تبدل وتغير مجال الاهتمام به ؛ فقد كان عند القدامي أداة للمعرفة فيوظف على أنه دليل على حكم ، أو مرجعا في العمل أو أداة لإثبات أو نفي أمر ما ، هذه الكيفية في التعامل مع النص تغيرت فبعدما كان أداة صارت له كينونته الخاصة : أي أنه أصبح مجالا معرفيا مستقلا ، يمكن دارسه من إنتاج معرفة تجعله يعيد النظر فيما كان يعرفه ، وذلك بتوظيف آليات قراءة حديثة وقديمة مثل الفللوجيا ، والهرمينوطيقا ، والسيمولوجيا ، ويوسع من اجتهاده بغية الوصول إلى التحقق منه ، ومن ثم توظيف ما كان يعرف عن النص الديني.
*د. محمد أبو النواعير دكتوراه في النظرية السياسية/ المدرسة السلوكية الأمريكية المعاصرة في السياسة
ــــــــــــ
https://telegram.me/buratha