د. محمد أبو النواعير ||
· كيف يؤثر الخطاب الديني في تكوّن أنماط المعرفة السوسيولوجية في مجتمعات المذاهب الإسلامية؟!
إن موضوع إستراتيجيات الخطاب من الموضوعات اللغوية المهمة ، وتكمن أهميتها في كل مجال من مجالات الحياة ، ومنها المجال الاجتماعي والديني والمجال التعليمي والسياسي والاقتصادي . فللمجتمع سياقات كثيرة ، تتطلب خطابات متنوعة ، لترضي أهداف الناس المتباينة. ولذلك فالحاجة قائمة لاكتشاف هذه الإستراتيجيات ، ومعرفة كيفية تطويعها واستعمالها، وتطوير ذوات الناس التخاطبية بما يواكب متطلبات السياق وما يكفل التكيف مع تقلباته . كما أن توظيف الإستراتيجيات ضروري للدعوة وتبادل الأفكار بين الناس ، بل غدا ضرورة في البيت وفي السوق وفي الطريق وفي كل مرافق الحياة . فالمعلم يحتاج إلى استعمال أكثر من إستراتيجية في خطابه طلابه ، لاختلافهم في التكوين ولتعدد ميولهم ، ودرجة استيعاب كل منهم في الفهم . وكذلك الأب ورجل الإعلام وغيرهم كثر .
وعليه ، فتعدد هذه السياقات مدعاة لتعدد الخطابات اللغوية . وهذا مؤشر إلى ضرورة تعدد الإستراتيجيات ، لما لكل منها من مزايا وآثار تختلف باختلافها النابع من اختلاف السياق ، وندرك أنه لا يستطيع الإنسان أن يقتصر على استعمال إستراتيجية واحدة في كل سياقات خطابه، فإن ذلك يعد مؤشرا على الجمود في التفكير.
ومن جهة أخرى ، يسعى الخطاب من خلال وظيفتيه التعاملية والتفاعلية ، إلى التعبير عن مقاصد معينة وتحقيق أهداف محددة . إذ يبرز في الخطاب مقاصد كثيرة ؛ قد تظهر مباشرة من شكل الخطاب ، وقد لا تظهر . وعندها تصبح لغة الخطاب شكلاً دالاً يقود إلى المدلولات الثاوية خلفه من خلال المعطيات السياقية ، والعلاقات التخاطبية ، والافتراضات المسبقة التي يدركها المرسل أو يفترض وجودها ، فيبني لغة خطابه عليها ؛ كما يدركها المرسل إليه ، ليستدل على المقاصد من خلالها .
ويتوخى المرسل (مرسل الخطاب) لتحقيق ذلك خططاً معينة هي التي يمكن أن نسميها إستراتيجيات ، وهي إستراتيجيات تَطّرد بعينها ، من خلال أنساق لغوية وأدوات معينة ، فتصبح ظاهرة لافتة للنظر ، فتكتسب القيمة التي ترشحها لتستحق الدرس والتحليل في نماذج مختلفة من الخطاب ، بوصفها اطرادات لغوية تجسدها كفاءة المرسل التداولية في خطابه . وبوصفها ثمرة لسلسلة من الإجراءات الذهنية التي يقوم بها . ويكون في ذلك كله محكوماً بتأثيرات كل العناصر السياقية السالفة ، فيغدو الخطاب عندها علامة على مجموعة من هذه الانتظامات التي تعبر عن التفكير النظري والإنجاز اللغوي الذي يرى المرسل أنه الأمثل من بين الإمكانات التي تتيحها اللغة في جميع مستوياتها ، وذلك للارتفاع بأداء القول وتحقيق ما يريده خطابه.
فما هي الاستراتيجيات الخطابية التي يتوخاها المرسل؟
هي استراتيجيات قد تفوق الحصر. ومع هذا يمكن تصنيفها تصنيفا عاما ، لينتظم عقدها حسب معايير واضحة . ومن هذه المعايير:
معيار اجتماعي ، وهو معيار العلاقات التخاطبية ؛ ومعيار لغوي ، وهو معيار شكل لغة الخطاب ؛ ومعيار ثالث هو معيار هدف الخطاب.
فهناك، مثلاً، معيار العلاقة التخاطبية بين أطراف الخطاب التي تتراوح قرباً وبعداً، علواً أو دنواً ، وعلى ضوء هذا المعيار نستطيع أن نعين إستراتيجيات نصطلح على إحداها بالإستراتيجية التضامنية ؛ ففيها يصبح طرفا الخطاب وكأنهما من الأقران لغة، ويمكن أن يعبر المرسل عن تلك العلاقة بأدوات لغوية كثيرة ، منها على سبيل المثال لا الحصر ، الأدوات الإشارية اللغوية التي تقرب البعيد أو تقترب منه، وتجمع الأطراف المتخاطبة ، مثل الضمير ( نحن ) الذي يدل على الجمع بين طرفي الخطاب، واستعمال الاسم الأول والألقاب والكنى.
وتحت هذا المعيار أيضا ، معيار العلاقة التخاطبية ، يندرج صنف آخر من الإستراتيجيات هو الإستراتيجية التوجيهية التي تتجسد من خلال آليات صريحة تسهم في توجيه المرسل للمرسل إليه، مثل أساليب الأمر والنهي الصريحين والتحذير والإغراء. ومن خلالها يبرز دور السلطة الاجتماعية وغير الاجتماعية في إعطائها المرسل نفوذاً يمارسه من خلال الأدوات اللغوية.
أما المعيار الثاني ، لتصنيف إستراتيجيات الخطاب، فهو معيار دلالة الشكل اللغوي ، إذ يكون واحدا من صنفين ؛ إما قصدا مباشراً ، أي إن القصد يتضح في الخطاب مباشرة ، وإما قصدا غير مباشر، بأن يكون المعنى مستلزما من شكل الخطاب . وبالتالي يصبح شكلاً يستلزم قصداً غير المعنى الذي يدل عليه ظاهر القول أو الكلام . فقد يستخدم المرسل شكلاً ما بقصد تبطين مقاصده ومعانيه ، ويرمي من خلاله إلى أمور يتدخل سياق الخطاب في كشفها وتحديدها . ويمكن أن نصطلح على هذا الضرب من الإستراتيجيات بالإستراتيجية التلميحية.
والمعيار الثالث لتصنيف الإستراتيجيات هو معيار الهدف من الخطاب . ويعد الهدف الإقناعي من أهم الأهداف التي يسعى الإنسان إلى تحقيقها . وبذلك يمكننا أن نصنف إستراتيجية نسميها استراتيجية الإقناع ، انطلاقا من أن المرسل يتوخاها لتحقيق مآرب كثيرة . ويستخدم لذلك آليات متعددة، و”حيلاً” لغوية مختلفة ، منها ما يخاطب العواطف ، ومنها ما يتعامل مع عقل المرسل إليه مثل الآليات الحجاجية التي يمكنه عن طريق البراعة فيها أن يتخذ الأقوال أدلة تساق أمام المرسل إليه حتى يقنعه دون تلاعب بعواطفه ، أو التغرير به . ويوظف لها كافة العمليات شبه المنطقية التي تتجسد باللغة الطبيعية.
*د. محمد أبو النواعير دكتوراه في النظرية السياسية/ المدرسة السلوكية الأمريكية المعاصرة في السياسة
ـــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha