د. سيف الدين زمان الدراجي* ||
الدبلوماسية هي " أن تقول للناس اذهبوا إلى الجحيم بطريقة تجعلهم يسألونك عن الاتجاهات ". وينستون تشرشل.
شهدت مرحلة ما بعد الحرب الباردة تطورا ملحوظاً في شكل العلاقات الدولية لاسيما فيما يتعلق بشؤون النظام الدفاعي العالمي وثوابته التقليدية التي فرضت رؤية جديدة لاستراتيجيات الأمن القومي كمحور أساسي في سياسات الدول الخارجية لإدارة الصراعات ودعم المصالح و توسيع النفوذ وإتخاذ القرارات على المستويين الدولي والإقليمي.
لقد دعت الحاجة إلى صياغة تعريفات أوسع لمفهوم الأمن القومي يتضمن أبعاداً اقتصادية ودبلوماسية وسياسية وجيوستراتيجية واجتماعية وغيرها، وهو ما ذهب إليه عدد من رواد مدرسة كوبنهاجن و مفكريها امثال "باري بوزان" و "أولي ويفر" بشأن توسيع دراسات الأمن لإبعاد أخرى غير الابعاد العسكرية.
إن بناء الدولة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بقُدرة مؤسساتها على إدارة مواردها وتنفيذ وظائفها بالشكل الذي يضمن صمودها بوجه عمليات التغيير جراء الصدمات الداخلية أو الخارجية غير المتوقعة، ذات التداعيات المُهددة لأمنها وإستقرارها ورفاهية شعوبها.
تُعَد الدبلوماسية أحد أهم عناصر القوة الوطنية التي تتبعها الدول لصياغة سياساتها الخارجية وتوسيع دائرة تأثيرها بإستخدام مبادئ وأسس الحوار الموجه و إستراتيجيات التفاوض الفعال وتكتيكاته ومناهجه، للمساهمة في تحقيق أهدافها الوطنية والسياسية، وبلورة رأي عام دولي و إقليمي داعم ومساند لمواقفها الرامية لحماية مصالحها ومصالح رعاياها في الدول الأخرى.
تُعَرَّف الدبلوماسية - من وجهة نظر الكاتب- بأنها " أحد عناصر القوة الوطنية التي تستخدمها الدول لتحقيق اهداف سياساتها الخارجية وفقاً لمجموعة من القواعد والأعراف والقوانين التي تُنظم علاقاتها ضمن البيئة الدولية ".
إن دور الدبلوماسية في مواجهة التحديات والتهديدات التي قد تتعرض لها الدولة لا يقل عن دور المنظومة الأمنية والعسكرية، بل قد يمكن إعتبارها حائط الصد الأول للحيلولة دون تنامي الصراعات المُسلحة وخطر المواجهة المباشرة، نتيجة لتقاطع مصالحها مع مصالح دول أخرى، علاوة على ما قد يترتب على ذلك من تداعيات أمنية وسياسية وإقتصادية وديموغرافية.
لقد حددت اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية في العام 1961 الإجراءات والضوابط الخاصة بالعمل الدبلوماسي بين الدول كما بينت الحقوق والواجبات الخاصة بأفراد البعثات الدبلوماسية.
إن تعزيز الدور الدبلوماسي بشقيه الثنائي والمتعدد للإضطلاع بمسؤولية الدفاع عن مصالح الدول العليا وأمنها القومي، يتطلب فريقاً على مستوى عالي من القدرة والكفاءة والنزاهة، مزوداً بالتوجيهات السياسية الأساسية، والرؤى والمعلومات اللازمة، لفهم أوسع لشكل النظام العالمي وطبيعة العلاقات الدولية، بما في ذلك تقييم المخاطر و تحليل المواقف و استشراف القضايا التي تؤثر بشكل او بآخر على مكانة الدولة ضمن محيطها الدولي والإقليمي.
في ضوء ما تقدم، وفي سبيل تحقيق ذلك لابد أن يتمتع أعضاء هذا الفريق لاسيما موظفوا السلك الدبلوماسي بمهارات خاصة، تُعَدُ أصولاً مهنية للعمل الدبلوماسي، ومنها:
1. القدرة على فهم وتحليل وتقييم المواقف والتحديات.
2. المهارة والتخطيط الجيد في جمع المعلومات من مصادرها المتنوعة.
3. الدقة و الموضوعية في طرح الآراء والأفكار والمقترحات، وقول الحقيقة للسلطة دون تحيز أو محاباة أو ضعف، مع مراعاة آداب الحوار ومسؤوليات التراتبية الوظيفية.
4. القدرة على الإبداع و الإبتكار في حل المشاكل وإدارة الأزمات و اتخاذ القرارات تحت الضغط وفي المواقف الصعبة.
5. المعرفة الواسعة والفهم الشامل للشؤون الدولية، مع مراعاة المعايير الثقافية والاجتماعية، بالإضافة إلى المعرفة التامة بعادات وتقاليد الدولة المضيف.
6. القدرة على تشكيل وإدارة الفرق المتامسكة لإنجاز المهام الموكلة، مع التأكيد على أن يكون داخل هذه الفرق من يلعب دور الناقد والمُحدد للإخفاقات ونقاط الضعف، أو ما يُطلق عليه بـ (Red team).
7. الحزم والإصغاء واللياقة واللباقة والهدوء وحسن المظهر. مع التحلي بمهارات التفاوض و القدرة على تعلم اللغات والتواصل الفعال وبناء العلاقات وتشكيل التحالفات في أوقات السلم والحرب.
8. دقة المُلاحظة وسرعة البديهة والحذر من الوقوع في شرك الأجهزة المخابراتية التي عادة ما تضع الموظفين الدبلوماسيين هدفاً لها، لاسيما في الأنظمة الدكتاتورية، وقد أشارت بعض الدراسات الى ضرورة تطوير المهارات ألامنية والأستخبارية للموظف العامل في البعثات الدبلوماسية.
بالإضافة إلى ما تم ذكره أعلاه، فإن الإيمان بجوهر النظام السياسي الديمقراطي، والإخلاص والكفاءة، هي معايير نجاح المُكلف بأي مسؤولية سواءاً كان ذلك داخل حدود البلد الجغرافية أو خارجها. الا أن تمثيل الدولة في الخارج و المساهمة في تنفيذ سياستها الخارجية تضع على عاتق المبتعث او الدبلوماسي مسؤولية مضاعفة، كونه مُطالب بالعمل على تقديم الصورة الأفضل وخلق روابط قوية مع الدول على كافة الصعد وفي أصعب الظروف. وهنا لابد من الإشارة إلى معادلة حاصل ضرب الإخلاص في الكفاءة والذي يستوجب أن لا يكون أحد طرفيها يساوي صفراً لأن الناتج في المحصلة سوف يكون صفراً.
إن على الدبلوماسيون أن يكونوا قادة مؤثرون في من حولهم، قادرون على صياغة الرؤى وتحديد الأهداف وتوسيع شبكات التواصل وحشد المواقف الداعمة وبناء التحالفات وفقاً لنظريات الربح المشترك.
إن قُدرة الدول على المناورة وصنع الفرص وتجنب اكبر قدر ممكن من الخسائر، وعدم الدخول في إتون صراعات لا طائل منها سوى استنزاف الطاقات، يتطلب دوراً دبلوماسياً فاعلاً ومؤثراً في إنتاج سياسة خارجية نشطة، اعتماداً على استراتيجية تحمل الأكلاف وتوزيع المنافع، عبر التعاون وعدم التدخل في شؤون الدول الداخلية، والمساهمة في معالجة المشكلات وتغليب لغة الحوار والتفاوض لدعم مرتكزات الأمن القومي، فضلاً عن تعزيز دور الوساطة في تسوية النزاعات في مناطق الصراع، وبما ينعكس على تعزيز مكانة الدولة في محيطها الدولي والإقليمي.
*باحث في شؤون السياسة الخارجية والأمن الدولي.
https://telegram.me/buratha