د. علي المؤمن||
يواجَه المثقف الإسلامي باتهامين متناقضين في إطار إشكالية الوعي، فالخطاب العلماني يتهمه بأنه تراثي عقلاً وخطاباً وحركة، ورجعي ويعيش الماضي بكل تفاصيله، في حين تتهمه الحوزة العلمية بأنه عصري في أدوات تفكيره، وسطحي عقلاً وخطاباً وحركة، ويعيش قطيعة مع التراث الديني والعلم الديني.
ولكل من الاتجاهين (العلماني والديني) منطلقاته، فهما - وإن أخطآ في تشخيصهما - إلا أنهما لم ينطلقا من فراغ على العموم، ولعله يعود إلى طبيعة تعامل أكثر المثقفين الإسلاميين مع التراث والعلم الشرعي، وهو تعامل يشوبه الارتباك وعدم الوضوح في الرؤية، ويتميز ـــ غالباً ـــ بالعلاقة غير المتوازنة أو غير المنهجية، فتكون النتيجة؛ أما إسلامياً جامداً على التراث دون وعي حقيقي بالعصر، وإما إسلامياً عصرياً مصاباً بنوع من الانفلات الفكري والثقافي. وهذا اللون من اللاتوازن هو أحد أهم أسباب أزمة المثقف الإسلامي. في حين أن بعض المثقفين الإسلاميين الذين تعاملوا بعمق ومنهجية مع التراث والعلم الديني، استطاعوا أن يعيشوا توازناً رائعاً في أساليب تفكيرهم ورؤيتهم، وينتجوا خطاباً إسلامياً واعياً وأصيلاً.
إن المراد من التراث والعلم الديني هنا هو التراث الإسلامي والمعارف الشرعية تحديداً، أي العلوم والمعارف التراثية التي تدخل في فهم «النص المقدس»، وتبنى على أساسها المعتقدات والأحكام الشرعية، وهي العلوم التي أسسها المحدثون والفقهاء السلف، والتي تبلورت وأخذت شكلها الحالي عبر قرون طويلة من الدراسة والبحث والتصنيف، وخاصة علوم القرآن الكريم وعلوم الحديث الشريف. وعلى أساس هذه العلوم قام عِلمان كبيران هما علم الكلام (العقيدة) وعلم الفقه (الأحكام). وهذه العلوم هي التراث، وهي قوام الهوية الإسلامية في الماضي، وأساس هوية الحاضر، ومنطلق النهوض الإسلامي المستقبلي، وهي المساحة القابلة للتحوّل والتجديد والاجتهاد وإعادة القراءة. أما النص المقدس (القرآن الكريم والصحيح من السنة الشريفة) فهو ليس تراثاً؛ بل الثابت والملزِم في الماضي والحاضر والمستقبل، والذي لا يخضع لظروف الزمان والمكان.
وقد تمظهر التعامل الانفعالي اللامتوازن لأغلب المثقفين الإسلاميين مع التراث الإسلامي والعلوم الشرعية، في فكرهم الحركي وفي خطابهم الذي يشكّل جزءاً أساسياً من الخطاب الإسلامي المعاصر، كما انعكس على الواقع الإسلامي المعاصر عموماً، وتسبب في انحراف بعض الإسلاميين فكراً أو سلوكاً، وبروز القلق العقيدي والفكري لدى آخرين، فيما تعرض الجزء المتبقي الى الإلغاء من قبل المؤسسة الدينية، برغم أن هذا الجزء يتمتع بالأصالة الفكرية والعلمية وبالتعامل المنهجي مع التراث، ودرس العلوم الشرعية وفق المعايير المتعارفة حوزوياً؛ إلا أن شبهة التعامل اللامتوازن للمثقف الإسلامي مع التراث طالت هذا الجزء أيضاً، بجريرة الفئات الأخرى من المثقفين الذين شطحوا فكرياً أو لم يتعاملوا منهجياً مع العلم الشرعي.
ولعل من أسباب عدم اهتمام المثقف الإسلامي بتراثه وبدراسة العلم الشرعي وبالتفقه، بل والقطيعة مع التراث أحياناً، يعود الى انفعال المثقف الإسلامي في مواجهة الخطاب العلماني، المحلي أو الغربي، الذي يتهم المثقف الإسلامي بــ (السلفية) و(الماضوية) و(الأصولية) و(اللاعقلانية) و(الجمود) و(التخلف)، ومقاطعة العصر وثقافاته وتحولاته، ورفض الواقع وحيثياته. هذه التهم التي ظلت تلاحق المثقف الإسلامي، تسببت في هزيمة داخلية ونفسية لدى بعضهم، مما تسبب في لهاثه بعضهم وراء تشرّب معاني مفهوم "المثقف" في علم الاجتماع أو وفق مايطرحه المفكرون الغربيون. فكانت النتيجة أن أصبحت المناهج والنظريات والأسماء الغربية، وآخر المصطلحات الوافدة، والمشكلات الثقافية الآنية، هي الشغل الشاغل لهذا البعض، بقصد أو بدونه، من أجل دفع شبهة عدم العصرنة وعدم التخلف.
وعلى الضفة الأخرى؛ يحاول بعض المثقـفين الإسلاميين (كتّاب أو صحفيين أو أكاديميين أو سياسيين) التأسيس لنظريات إسلامية في مجالات تخصصية، وتحديد موقف الشريعة، والإجابة على إشكاليات فكرية تخصصية. في الوقت الذي تستدعي هذه المحاولات فهماً عميقاً للتراث الإسلامي ودراسة منهجية للعلم الشرعي، يفتقر إليهما المثقف المسلم غالباً.