كندي الزهيري
إن مفهوم الشرق الأوسط يرجع في جذوره إلى بدايات القرن العشرين، حينما استخدمه رجل الاستخبارات البريطاني الجنرال توماس جوردن عام 1900م، في تنبيهه للحكومة البريطانية من الخطر الروسي على مصالحها في الهند، وأن كان المفهوم قد ارتبط بالجنرال الاميركي الفرد ماهان عام 1902م، حين نبه الحكومة البريطانية لأهمية منطقة الخليج العربي التي اطلق عليها الشرق الأوسط للإمبراطورية البريطانية ومصالحها في الهند، ليبدأ المفهوم بعد ذلك بالانتشار في الدوائر الاستعمارية الغربية.
وفي العام نفسه كذلك كتب فالنتاين شيرول مراسل جريدة التايمز البريطانية مجموعة مقالات امتدت لعدة شهور تحت عنوان (المسألة الشرق أوسطية)، حيث كرس فالنتاين مقالاته للبحث عن مقومات الاستراتيجية المتوفرة في المنطقة، والتي تعدها بريطانيا ضرورية لتأمين الدفاع عن مستعمراتها في الهند، والتي كانت توليها اهمية بالغة في ذلك الوقت. ونظراً لأهميتها، فقد اطلق عليها جوهر المستعمرات البريطانية. ليصل بعد ذلك إلى تأسيس قيادة الشرق الأوسط في القيادة العسكرية للحلفاء في الحرب العالمية الثانية.
وفي هذا الاطار شاعت فكرة الشرق الأوسط في السياسة البريطانية، وفكرة المشرق في ادبيات السياسة الفرنسية، وكلاهما مفاهيم جيوسياسية واستراتيجية دلت على طبيعة مخططات القوى الاستعمارية الأوربية ازاء وعكست استراتيجيات تقاسم مناطق النفوذ بينها، وخصوصا مع اكتشاف البترول في كل من أيران والعراق وشبه الجزيرة العربية. وهكذا تداخل في المشروع الاستعماري الجغرافيا والتاريخ والأيديولوجيا وحمل المفهوم في طياته تطوراَ لعلاقة الوطن العربي بالعالم الغربي لعصر ما قبل الحرب العالمية الأولى.
جاءت الحرب العالمية الأولى لتسجل نهاية ذلك العصر أو ما يسميه ريتشارد هاس العصر الأول بالتزامن مع انحطاط وتفكك الدولة العثمانية، ليبدأ الأوربيون بعد ذاك بالتوغل في المنطقة، وتقاسم غنائم الحرب بين الدول الأوربية المنتصرة معلنة بداية عصر الاستعمار، التي شهدت فيه المنطقة هيمنة فرنسية ــ بريطانية دامت نحو اربعة عقود، والذي سرعان ما انتهى في اعقاب الحرب العالمية الثانية التي استنزفت قوة الأوربيين، بالتزامن مع بروز القومية العربية،
أن مفهوم الشرق الأوسط بدا في الانتشار اثناء الحرب العالمية الثانية على يد الحلفاء، للإشارة إلى الاقليم الممتد من جنوب اسيا إلى شمال افريقيا، ثم اخذ تعبير الشرق الأوسط يحل تدريجياً محل مصطلحات اخرى سادت في الاستعمال مثل الشرق الاقصى، والشرق الادنى. ومع قيام دولة إسرائيل عام 1948م ركز المؤسسون الأوائل على مفهوم الشرق الأوسط للتضليل الحضاري على المنطقة.
فالشرق أوسطية كفكره تنسب إلى مراكز خارج الشرق الأوسط، هو أوروبا تدريجياً وإلى الغرب، وفيه الآن الولايات المتحدة قطبه الاكبر، وهي لم تعبر ابداً عن نطاق جغرافي تاريخي محدد على وجه الدقة، بل تعرض للانكماش والتوسع مع تغير المشاريع الغربية والأميركية اتجاه الوطن العربي. الا أن السياسة الأميركية بقيت مدركه للأهمية الجيوستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط من عام 1902م، عندما اكد ماهان على اهمية المنطقة بقولة "إن الشرق الأوسط سواء كان مفهوما استراتيجيا ام مفهوماً حدودياً للأجزاء الجنوبية للبحر المتوسط والامتداد الاسيوي، فأنه مرشحٌ ليكون موقعاً للمواجهة المستقبلية بين الاستراتيجيات المتصارعة . فالإدراك الاميركي لأهمية المنطقة تبدو بعيده، ليس فقط ادراك اهميتها وانما دراستها عن بعد وهذا ما يبدو واضحاً.
وهذا يكشف عن مدى اهمية المنطقة العربية في الفكر السياسي الاميركي منذ زمن بعيد. ليبدأ التدخل الاميركي الفعلي في منطقة الشرق الأوسط بعد ذلك وتمثل بالإطاحة بنظام مصدق في أيران وتثبيت حكم الشاه، ثم جاء الرئيس الاميركي أيزنهاور بمبدأ سياسة ملئ الفراغ، كي تحل الولايات المتحدة محل الاستعمارين البريطاني والفرنسي. ليمد ذلك المبدأ نطاق المجال الحيوي للولايات المتحدة الأميركية إلى الشرق الأوسط.
ليأتي بعد ذلك مبدأ نيكسون والإنابة المدعومة، والتي صيغت بعد ذلك إلى نظرية (فتنمه الحرب) أي جعل النظم المؤيدة للولايات المتحدة تلعب دورها في الدفاع عن مصالحها ومصالح الحليف الاكبر. برعاية العراب الأميركي، ومن هنا بدأت المفاوضات المباشرة بين الكيان الصهيوني والنظام السادات، والتي انتهت بتوقيع اتفاقيتي سيناء الأولى والثانية.
وجاء بعد ذلك مبدأ كارتر، في الشرق الأوسط، ليطرح ضرورة اعتماد القوة لغزو حقول النفط، وخاصة بعد حرب 1973م،واستخدام النفط كسلاح. ليستمر التدخل الاميركي في المنطقة ، لكن من الخطأ القول أن العصر الثالث (عصر الحرب الباردة)، كان مجرد مرحلة تنافست فيها القوى العظمى بشكل منظم، فحرب حزيران 1963م، أحدثت تغييرا في موازين القوة، فيما اظهر استخدام النفط كسلاح اقتصادي . وسياسي، في حرب 1973م، وهشاشة الولايات المتحدة والعالم، استطاعت من خلاله القوة الاقليمية أن تحافظ على استقلالية كبيرة للعمل وفقاً لأجندتها الخاصة.
وجاءت الثورة الإسلامية في أيران لتطيح بدعائم السياسة الأميركية في المنطقة، ولتظهر عدم قدرة القوة الخارجية على التأثير، في الاحداث المحلية، عدا أن الدول العربية كانت قد نجحت في مواجهة المحاولات الأميركية لجرها مشاريع مناهضة للسوفييت، فيما ادى الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982م، إلى ولادة حزب الله، وقت استزفت فيه الحرب العراقية الإيرانية هذين البلدين طيلة عقد من الزمن. لينتهي بذلك العصر الثالث معلناً بداية العصر الرابع (عصر ما بعد الحرب الباردة) على منطقة الشرق الأوسط. ليبدأ ذلك العصر بالترويج بتحقيق السلام في المنطقة، وهو ما عبر عنه روبرت ماكفرلين، مستشار الامن القومي الاميركي الاسبق ، بقولة "يجب أن يكون للتوجه السياسي بعده الاقتصادي، على اساس أن السلام في الشرق الأوسط هو مصلحة عالمية، وانه يجب تأمين تكاليف هذا المخطط عالمياً.
طرح شمعون بيريز مفهوم الشرق الأوسط الجديد، وألف كتاباً حمل العنوان نفسه يدعو فيه إلى اختراق العالم العربي، من خلال النشاط الاقتصادي بالتوازي مع الدعم الأميركي السياسي والاقتصادي للمنطقة العربية، . الا أن تعثر عملية السلام، وانهيار اتفاقية أوسلو عام 1993م، ووصول اليمين المتطرف إلى الحكم ورفضه لهذا المفهوم، هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى وفي اعقاب حرب الخليج الثانية والتواجد الأميركي في منطقة الخليج، تبنت الولايات المتحدة استراتيجية شاملة لمنطقة اسيا الوسطى والخليج العربي وبقية الدول العربية تحت مفهوم منطقة مترامية الاطراف من المغرب غرباً إلى هضبة التبت شرقاً وتضم تركيا وإيران وباكستان وافغانستان، حيث خصص فصل منفرد( للشرق الأوسط الكبير )من المغرب حتى الحدود الصينية .
وفي عام 1999م، حدث تطور عسكري هام مرتبط بالشرق الأوسط الكبير، تمثل في نقل وزارة الدفاع الأميركية امر القيادة العليا للقوات الأميركية في اسيا الوسطى من قائد القوات الأميركية في الباسفيك (المحيط الهادي) إلى القيادة المركزية للشرق الأوسط التي كانت تعرف بقوات الانتشار السريع. الا أن مع اعلان بوش الابن مبادرته (الشرق الأوسط الكبير).
يتضح مما سبق أن مفهوم الشرق الأوسط حسب الدوافع الأميركية لشرق تبدو واضحة بشكل اكبر.
ـــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha