بغداد ـ عادل الجبوري
يؤشر مجمل اطروحات الرئيس الاميركي الجديد دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية التي امتدت شهوراً عديدة، وقراراته التي اتخذها ما ان دخل البيت الابيض، الى أن الولايات المتحدة الاميركية مقبلة على عهد جديد يختلف في الكثير من أبعاده وجوانبه ومضامينه عن العهود السابقة.
ولعل الحقيقة التي لا خلاف عليها، تتمثل في أن عموم السياسات الأميركية تحتكم الى جملة من الثوابت، لا تتغير بتغيّر هوية الحزب الذي يمسك بزمام الأمور، ولا بطبيعة وسيكولوجية الشخص الذي يتربع على عرش البيت الأبيض. من بين تلك الثوابت، الحفاظ على أمن الكيان الصهيوني، ودعم ومساندة حلفاء واتباع الولايات المتحدة في الشرق الاوسط وكافة انحاء العالم، ومحاربة أعدائها وخصومها بكل الوسائل والأدوات، وضمان تفوّق الولايات المتحدة عسكرياً واقتصادياً وأمنياً وسياسياً، والعمل على ترويج وتسويق القيم الأميركية من خلال وسائل الاعلام المتنوعة، وجعل تلك القيم هي السائدة والمهيمنة على ما سواها من القيم الغربية، ناهيك عن القيم الدينية والقومية والعرقية والمذهبية لكثير من الشعوب والمجتمعات.
لا يستطيع الرئيس دونالد ترامب، مهما كانت خلفياته وتوجهاته ومزاجه ان يحيد أو يقفز على تلك الثوابت، وحتى الآن ليس بإمكان أي شخص، أن يعثر على كلمة واحدة تفوّه بها ترامب طيلة أكثر من عام تخالف الثوابت الاميركية.
بيد أن هناك هامشاً كبيراً يتحرك فيه الرئيس الأميركي -أي رئيس- وفق الدستور، يتيح له اتخاذ قرارات وتوجيه سياسات، قد لا تتساوق وتنسجم مع المألوف من المزاج العام، وهذا الهامش يمكن أن يسقط الرئيس من خلاله طبيعة شخصيته، وقناعاته ومزاجه على جانب من السياسات والمواقف والتوجهات العامة.
ولأن العمل والتحرك وفق القناعات والأمزجة الشخصية غالباً ما تكون حدوده وضوابطه عائمة وفضفاضة، فإنه يمكن أن يصطدم -دون قصد- مع الثوابت، أو يتقاطع معها.
والجزء الأكبر من السجال والجدل يدور اليوم حول شخصية ترامب وسلوكياته أكثر مما يتمحور حول منهجيات الحزب الجمهوري، الذي ينتمي اليه ترامب، ونقاط الاختلاف فيما بينها وبين منهجيات الحزب الديمقراطي، باعتبار أن كل إسقاطات شخصية ترامب ستنعكس على كثير من سياسات الولايات المتحدة الأميركية عموماً وليس على سياسات وتوجهات الحزب الجمهوري فحسب.
وما يميّز ترامب عن كثير من رؤساء الولايات المتحدة الأميركية السابقين، أنه لم يأتِ من عالم السياسة، وإنما جاء من عالم الاقتصاد والمال والعقارات، وأجواء اللهو والفضائح الجنسية، لذلك من الطبيعي ان يفكر ويتصرف بعقلية رجل الاعمال، وبمعايير الربح والخسارة المباشرة، ناهيك عن حرصه على ان يشغل الحيز الأكبر في المشهد العالمي، بفضاءاته الاعلامية والسياسية، وما سواها.
ومعلوم انه خاض حملته الانتخابية مراهنا على ورقة محاربة ما يطلق عليه "التطرف الاسلامي"، وغلق أبواب الولايات المتحدة بوجه المهاجرين من العالم الثالث، لا سيما العالم الاسلامي، ويبدو أنه نجح في ذلك، على عكس مجمل القراءات والتوقعات، لذا من الطبيعي والمنطقي جداً أن يواصل، بعد فوزه الساحق والمفاجىء، استخدام الورقة الرابحة، متسلحاً بمنصبه وصلاحياته ونفوذه.
وهذا ما شرع به منذ الأيام الأولى له في البيت الأبيض، إذ أعلن عن الشروع ببناء الجدار العازل بين بلاده والمكسيك، رغم معارضة الأخيرة ورفضها تقديم اي تمويل مالي لبناء الجدار. ورغم الانتقادات العالمية الحادة، وبعد وقت قصير أصدر أمرا تنفيذياً تحت عنوان (حماية الأمة من الإرهاب)، يقضي بمنع رعايا سبع دول اسلامية -هي العراق وايران وسوريا واليمن وليبيا والسودان والصومال- من دخول الولايات المتحدة الاميركية، وربما يتوسع نطاق ذلك الامر التنفيذي في وقت لاحق، ليشمل دولا اخرى، رحبت بإجراءات ترامب، ورأت فيها خطوة بالاتجاه الصحيح!.
ولعلّه من المتوقع ان نشهد خلال الشهور والسنوات الأربعة المقبلة قرارات وأوامر متسرعة وانفعالية وارتجالية لترامب، بيد أنه في ذات الوقت علينا أن نتوقع تبعات واثار سلبية خطيرة على ترامب نفسه، وعلى حزبه، وعلى بلاده.
فرغم وجود تأييد ودعم داخلي وخارجي بقدر معين لقرارات وتوجهات ترامب، وهي في الأعم الأغلب صادرة من أوساط محافظة متشددة تكن عداء كبيرا للإسلام والمسلمين، بل ولشتى المكونات الدينية والقومية والعرقية في العالم الثالث، فإن مساحات الرفض العالمية لتلك القرارات واسعة جدا، ومن الخطأ تجاهلها والاستهانة بها.
فحتى الآن، رغم أنه لم يمر زمن طويل على صدور قرارات ترامب الانفعالية والمتسرعة، الا ان انعكاساتها جاءت سريعة وصادمة.
ومن بين تلك الانعكاسات، صدور احكام قضائية ببطلان أو تعليق بعض تلك القرارات، وهو ما يشكل ضربة في الصميم للرئيس الجديد وإدارته، وخير دليل على ذلك الحكم القضائي الذي أصدره القاضي الفيدرالي بمحكمة سياتل بولاية واشنطن، جيمس روبارت في الثالث من شباط - فبراير، بالتعليق المؤقت لقرار ترامب، وقبل ذلك بأيام، أقال ترامب وزيرة العدل بالوكالة سالي ييتس لرفضها تطبيق قراره بشأن حظر السفر، بعدما كانت قد أصدرت تعليمات لهيئة الدفاع التابعة للوزارة بعدم المثول أمام أي محكمة للدفاع عن القرار، قائلة إنها ليست على يقين من أن الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب ينسجم مع القانون أو مع الالتزام بالدفاع عن مبادئ الحق والعدل التي تلتزم بها الوزارة، وكذلك أقال ترامب المسؤول عن إدارة الهجرة والجمارك دانييل راغزديل لنفس الأسباب.
الى جانب ذلك فإن عدة ولايات أميركية عبّرت على لسان مسؤولين كبار فيها، رفضها لتنفيذ القرار، معتبرة أنه لا ينسجم مع مبادىء وقيم حقوق الانسان، التي نص عليها الدستور الأميركي، وأقرّتها المواثيق الدولية.
ناهيك عن التظاهرات والمسيرات الاحتجاجية الحاشدة في مدن أميركية عديدة، تنديداً بسياسات ترامب، إلى جانب ما يضخه الكثير من وسائل الإعلام الأميركية من أخبار وتقارير وتحليلات عن الجوانب والأبعاد السلبية لقرارات الرئيس الجديد، وكأنها تتبنى أجندة معينة تقوم على أضعافه، وربما إسقاطه. وذهبت بعض وسائل الاعلام الاميركية والغربية الى الحديث عن جنونه، عبر تداول تصريحات لكبير الأطباء النفسانيين في الولايات المتحدة الاميركية جون كارتر، قال فيها "إن ترامب يعاني من مشكلات عقلية خطيرة تتمثل بالنرجسية الخبيثة وجنون العظمة، وهو لا يصلح لتولي منصب الرئاسة".
وهناك اليوم في أوساط ومحافل أكاديمية وفكرية من راح يطرح مصطلح الترامبية Trumpism، ويصفها بأنها ظاهرة جديدة في العلاقات الدولية، من سماتها وخصائصها، العنصرية، والشعبوية، والديماغوجية، والتطرّف، وأولوية الاقتصاد على السياسة، واعتماد القوة لحل المشكلات والازمات القائمة.
وترى تلك الأوساط والمحافل أنه لا بد من التعاطي العقلاني الهادئ مع هذه الظاهرة الخطيرة.
ان قرارات ترامب حتى الآن، وما يمكن أن يفرزه المزيد منها لاحقاً، خلقت أجواء ومناخات مناسبة لسيناريوهات وتكهنات، قد تبدو غير معقولة او خارج دائرة تحليل المعطيات والحقائق الموضوعية المتعارف عليها.
ومن بين تلك السيناريوهات:
-اتساع نطاق التظاهرات والمسيرات الاحتجاجية، إلى مستوى يصعب معه السيطرة عليها وضبط إيقاعاتها.
-تنامي ردود الافعال والمواقف الرافضة لمثل تلك القرارات، في الأوساط والمحافل السياسية الاميركية، لا سيما أوساط الحزب الجمهوري وإدارة الرئيس ترامب، مما يعني إمكانية تزايد حالات الاستقالة والإقالة في صفوف المسؤولين التنفيذيين، فضلا عن عدم استبعاد فرضية حصول تصادمات وتقاطعات كبيرة وخطيرة بين السلطتين التنفيذية والقضائية.
-تعرض الرئيس دونالد ترامب للاغتيال، وفق مخطط تقوده جهات داخلية أميركية، تساندها جهات مخابراتية خارجية، أو يمكن ان يُرغم ترامب على الاستقالة، اذا بلغت الأمور مبلغاً خطيراً بالنسبة للولايات المتحدة الاميركية، وهذا غير مستبعد في ظل العقلية والمنهجية التي تدار بها حاليا شؤون الدولة الأكبر في العالم.
-تعرض العالم على وجه العموم، ومن ضمنه الولايات المتحدة الاميركية، وخصوصا المراكز الاقتصادية والمالية المتقدمة، الى هزات وكوارث اقتصادية عنيفة تفوق الهزات والكوارث التي حدثت قبل عدة أعوام.
إن ما يساعد على إيجاد مثل تلك السيناريوهات، هو مساحة الرفض الواسعة لسياسات ترامب، والقلق الكبير إزاءها، في داخل أروقة وكواليس الاوساط الغربية -كحكومات واحزاب- إلى جانب النخب الثقافية والفكرية ومؤسسات المجتمع المدني، وأوساط الرأي العام.
وما يساعد ايضاً على ايجادها -أي السيناريوهات- هو صعوبة تطبيق قرارات ترامب على الأرض على المدى الطويل أو حتى على المدى المتوسط، أو أن الكلفة السياسية والأمنية والاقتصادية لتطبيقها باهظة.
إلى جانب ذلك، فـإن النزعات المتطرفة، واستعداء مئات الملايين من المسلمين، لأن التنظيمات الإرهابية كتنظيم القاعدة وداعش وغيرهما، تدعي انتماءها للإسلام والدفاع عنه، من شأنه ان يوفّر الأرضيات والظروف والمبررات المناسبة لتفعيل نشاطاتها الإرهابية، وتوسيع مساحات أهدافها، لا سيما وأنها ستجد المزيد من التعاطف معها من قبل فئات وشرائح عديدة من المجتمع الاسلامي المتعدد المذاهب والقوميات والثقافات.
وطبيعي ان الولايات المتحدة الاميركية لن تكون بمنأى عن الاستهدافات الارهابية النوعية المشابهة في دقة تخطيطها وتنفيذها وحجم تأثيرها لهجمات الحادي عشر من ايلول- سبتمبر 2001.
وفي كل الأحوال يبدو أن سياسات دونالد ترامب، ستلحق ضرراً كبيراً بالولايات المتحدة الاميركية، يتجاوز الى حد كبير ما ظهر على الأرض، وما لاح في الأفق حتى الآن، وهذا أمر طبيعي جداً ومتوقع، فما دامت المقدمات خاطئة، فهل يتوقع ان تكون النتائج غير ذلك؟.
https://telegram.me/buratha