د.أمل الأسدي ||
بسم الله الرحمن الرحيم
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) سورة الحجرات،الآية:١٣
هكذا خاطب الله (عز وجل) الناس،محددا ركيزة خلقهم ونقطة البداية التي قامت عليها الحياة،فالانطلاقة كانت من الذكر والأنثی،وعلی هذه الانطلاقة استمر التواصل وتكونت الشعوب والقبائل،فلا وزن لأحد ولافضل له علی غيره في الميزان الإلهي إلا بالتقوی!!
فـ(حواء) هي التي أكملت حلقة الحياة ، ومن دونها تنعدم،فحتی اسمها وحروفه تشع منه الحياة، فقد يعني: الحياة وقد يعني الاحتواء والسكن، فهي أم الحياة،وهي المخلوق الجميل المليء بالعاطفة،وهي العقل المربي المهذب،فكل أنموذج بشري ناجح تقف خلفه يدُ امرأة ربت وسهرت وغذت وأمدت وعلمت؛لذا بقيت المرأة حاضرة في كل مفاصل الحياة،ولما كان العرب يفضلون الذكور علی الإناث،ويئد بعضهم البنات،ويظلمون المرأة ويعدونها من سقط المتاع،ويتنجسون منها في الأوقات المعلومة، جاء الإسلام محدثا ثورة ضد هذه الجاهلية والجمود،فأعاد للمرأة قيمتها،ورد إليها مكانتها التي وضعها الله لها،فحرم وأد الإناث،ونهی عن أنواع الزواج المحرمة التي كانت سائدة في الجزيرة العربية،وجعل للمرأة حقا في الميراث وأنصفها،فنجد القرآن الكريم حين يتحدث عن الميراث يقول:((يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ...))سورة النساء،الآية:١١
فلاحظ دقة النص القرآني،إذ لم يقل: {للأنثی نصف حظ الذكر} بل جعل السياق رفيعا،ودفع الضعة عنها وقلة الشأن حتی من حيث اللفظ!!
فضلا عن تنزيل سورة كاملة باسم النساء،وأخری باسم المرأة التي جاءت تشكو لرسول الله وهي سورة (المجادلة)،وغيرها من السياقات التي أعادت حضور المرأة لوضعه المراد،ولاننسی أن الإسلام قد أقر بعض التشريعات والسنن التي سنها (عبد المطلب)جد الرسول الأعظم،وهي كثيرة ومن ضمنها إقرار صداق المرأة،وتحريم السفاح.
وحين نتحدث عن الشعائر الإسلامية،نجد الحج من أعظم هذه الشعائر وأهمها،فهو مجموعة من المشاهد الحركية، والرياضة الروحية،وهو أشبه بالاختبارات الميدانية،أو أشبه بالفصول العلاجية النفسية،إذ تنظف روح الإنسان وتفرغه من كل ما علق به في رحلة الحياة،وهذا ما لاتقدمه شعيرة أخری كالحج،فاجتماع الناس،وتقاربهم ومساواتهم،وشعورهم ببشريتهم،هي الصورة المثلی التي يريدها الله تعالی لعباده،فلا جدال ولانفاق ولاكذب ولادنيا ولاملذات،إنها رحلةروحية للإنسان،تؤهله لعودته إلی الإنسانية.
وبما أن الحج هو الصورة المثلی الموحِّدة للجنس البشري،فقد جعل الله تعالی للمرأة فيها حضورا ورمزية دلالية،وخلدها في مشهدية الحج ورياضته،ومن بين ذلك:
⭕ السعي بين الصفا والمروة، فقد جاء في قوله تعالی:((إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)) سورة البقرة،الآية:158
هذه الشعيرة الواجبة في الحج ،وهذا المسعی بين الجبلين سبعة أشواط،إنما هو تخليد لتلك السيدة العابدة الملبية(هاجر) تلك الطاهرة التي تحملت العناء وبقيت هي وطفلها الصغير في هذه الأرض المتصحرة، هذه الشعيرة هو تخليد للوعة الأم المُحبَّة لولدها،فعلی الرغم من هذه المحبة لم تقدم أمومتها وغريزتها علی طاعة الله ونبيه ولزوم أمره!
هذه الشعيرة تكريم لتلك السيدة الجليلة،فكل الرجال وكل النساء يفعلون فعلها،ويسعون سعيها،إلا أنهم جمع وهي كانت لوحدها!!
وحدها والملكوت معها يرعاها إلی هذه اللحظة،هذه اللحظة وهذا الزمن الذي يصور مشهد سعيها ولهفتها وهي تبحث عن الماء لرضيعها.
أم إسماعيل النبي، أم اللسان العربي، المرأة الموقف، كرمها الله وخلد ذكرها،ورفع مقامها،وجعلها قدوة ومدرسة،ودافعا لإحقاق الحق،وتكريم صاحبه.
⭕ زمزم هاجر:
الطفل الرحماني يبكي عطشا،والماء نفد،ولبن أمه قد انقطع،والجو حار، والأم تسعی بين الجبلين،حتی سمعت صوت الغوث عند ابنها(إسماعيل) جاءت مسرعة فإذا بالماء يفور من تحت قدميه، فلمَّته بيديها وجمعت الرمل حوله وقالت: زم زم أي (توقف توقف)،
وهكذا فجّر الله الماء في هذه الصحراء،وهكذا أبقی هذه البئر شاهدة علی موقف هاجر وولدها،صحيح أن البئر انطمرت وأعاد حفرها،وأرجعها إلی الحياة(عبد المطلب)جد الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله) وذلك بعد رؤيا صادقة عرّفته مكان البئر،ولكنّ زمزم تبقی بئر هاجر واسماعيل،فلا يمكن أن تسمع بالبئر أو أن تشرب من مائها إلا وترتسم صورة تلك السيدة المهابة في ذهنك.
وماء زمزم حاضر في الحج،فيُستحَب الشرب منه قبل السعي بين الصفا والمروة،وغسل الأكفان به،وهو أثمن الهدايا التي يجلبها الحجيج لذويهم وأحبتهم، فالسلام علی السيدة الخالدة والسلام علی ولدها وأبيه.
⭕ مشاهد:
١- بين هاجر وفاطمة بنت أسد:
خلّد الرحمن دور (هاجر) وكرّمها علی صبرها وتحملها،وإيمانها،خلّدها وثبّت حرمانها ولوعتها وهي تتوسل الله أن يمن عليها وعلی طفلها بالفرج والخلاص من العطش والجوع والغربة،وكما ثبت ذلك في شعائر الحج،نجد أن الله تعالی قد خلّد السيدة(فاطمة بنت أسد) تلك المرأة المؤمنة،المخلصة،المربية،الناصحة،الممهدة، خلّدها... إذ جعل من تمام الحج وكماله أن يقف الحجاج عند الركن المستجار(الركن اليماني) كي يدعوا الله تعالی ويطلبوا الاستجابة ،وليشاهدوا أثر شق الجدار،فحين رفعت السيدة(فاطمة بنت أسد) طرفها الی السماء وشكت حالها إلی الله حين ضربها الطلق وقالت:(أي رب، إني مؤمنة بك، وبما جاء به من عندك الرسول، وبكل نبي من أنبيائك، وبكل كتاب أنزلته، وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل، وإنه بنى بيتك العتيق، فأسألك بحق هذا البيت ومن بناه، وبهذا المولود الذي في أحشائي الذي يكلمني ويؤنسني بحديثه، وأنا موقنة أنه إحدى آياتك ودلائلك لما يسرت علي ولادتي)
فاستجاب الله لها،ودخلت الكعبة وبقيت ثلاثة أيام مخدومة،حتی خرجت وبيدها طفل كفلقة القمر فقالت:(معاشر الناس، إن الله (عز وجل) اختارني من خلقه، وفضلني على المختارات ممن مضى قبلي، وقد اختار الله آسية بنت مزاحم؛ فإنها عبدت الله سرا في موضع لا يحب أن يعبد الله فيه إلا اضطرارا، ومريم بنت عمران حيث اختارها الله، ويسر عليها ولادة عيسى، فهزت الجذع اليابس من النخلة في فلاة من الأرض حتى تساقط عليها رطبا جنيا، وإن الله (تعالى) اختارني وفضلني عليهما، وعلى كل من مضى قبلي من نساء العالمين؛ لأني ولدت في بيته العتيق، وبقيت فيه ثلاثة أيام آكل من ثمار الجنة وأوراقها، فلما أردت أن أخرج وولدي على يدي هتف بي هاتف وقال: يا فاطمة، سميه عليا، فأنا العلي الأعلى، وإني خلقته من قدرتي، وعز جلالي، وقسط عدلي، واشتققت اسمه من اسمي، وأدبته بأدبي...) فكما ظلت صورة هاجر حاضرة،ظلت صورة فاطمة بنت أسد حاضرة بوقعها المعنوي الكبير،وبأثرها المادي المُشاهَد علی الجدار، فلم يُشقَق جدار الكعبة لأحد، لامن قبلها ولا من بعدها.
٢- خديجة وفاطمة الزهراء والكعبة: حين يطوف المسلمون بالكعبة المشرفة،وحين يؤدون شعائر الحج،تحج أرواحهم وتعرج الی تلك الأزمنة العتيقة، فـ(لبيك اللهم لبيك،لبيك لاشريك لك لبيك) لم تصل إلينا لولا موقف تلك السيدة الجليلة(خديجة بنت خويلد) فهي عماد وأساس نهض عليه الإسلام، فقد قال رسول الله :(ما قام ولا استقام ديني إلا بشيئين: مال خديجة وسيف عليّ بن أبي طالب) فحين يطوف الناس حول الكعبة،ويكبرون ويهللون،يستحضرون أنفاس هذه السيدة ومعاناتها،وألمها لما لاقاه الرسول من قومه، يستحضرون صبرها وقوتها،يستحضرون كرمها وذكاءها،وكذا سُستحضر أنفاس تلك الطفلة الحزينة المُحاصَرة مع أهلها في الشعب،تلك الطفلة التي خطف الموت أمها وتركها يتيمة،تملأ أذنها أصوات الجياع وعذاباتهم،إنها فاطمة الزهراء،أم أبيها،أم الأئمة،أم الإسلام،إذ بقي اسم محمد ببقاء أبنائها،بتضحياتهم،بدمائهم،بأرواحهم،فسلامٌ علی أهل الله،سلام علی خطاكم التي كانت هنا،سلامٌ علی أنفاسكم التي كانت هنا في مكة والمدينة وستبقی الی يوم يبعثون.
٣- هاجر والسيدة زينب:
ولايمكنك وأنت تتحدث عن السيدة التي أطاعت الله وامتثلت لأمره،فبقيت هي ورضعيها في هذا البلد المقفر ،إلا أن تتذكر السيدة العلوية الهاشمية(زينب)،فكما صبرت هاجر علی غربتها ووحدتها،وضحت بمشهد الحياة(الماء والطعام،والأهل،والأصحاب)ورضيت بالجدب والمصير المجهول واقعا،ذلك لإيمانها بالله تعالی،وإيمانها بنبي الله(إبراهيم)،كذلك السيدة زينب،المرأة الموقف، تركت الحياة والأهل والعز والجاه ورحلت مع إمام زمانها في رحلة المواجهة الإصلاحية،غير ملتفتة إلی قضية بقائها منعمة ومصانة ومرفهة في مدينة جدها،فتركوا الحج ولم يكملوه،وتوجهوا الی نصرة الإنسانية!
خرجوا من مكة وحافظوا علی حرمة الكعبة،إذ كان القوم يتربصون بالإمام الحسين،ويتحينون الفرصة لقتله،فحمی الكعبة بنفسه ومهجته،وخرج منها.
فكما كانت السيدة (هاجر) وإيمانها الممزوج باللوعة عنصرا ناقلا لتلك المرحلة من الرسالة السماوية،عنصرا موثقا وحافظا،كذلك كانت السيدة(زينب) وإيمانها ومعاناتها،وثيقة تدل علی عظمة النهضة الحسينية،ووثيقة تدل علی خسة رجال السلطة الأموية!
فكما تُذكر(هاجر)في الحج،تُذكر العقيلة(زينب) فلكل منهما موقف خالد،تزول العروش،ويغور الطغاة بينما يبقی موقف السيدتين ثابتا علی مر العصور.
وباستحضار هذه المشاهد والمشاعر،يكون الحج حجا،ويؤتي ثماره يانعة،فينادي الله تعالی من عالم الملكوت:لبيك عبدي لبيك،لبيك عبدي لبيك.لبيك عبدي لبيك
https://telegram.me/buratha