المقالات

الوصول إلى الحقيقة

1097 18:06:00 2009-05-20

نظر مليا من حوله فوجد نفسه غريبا بين مئات الرؤوس البشرية يتصرف بالمثل على غير عادة الناس... ماسحي أحذية يطلون وجوه زبنائهم بمسحوق أسود. نادل يسكب الطلبات على رؤوس زبائن المقهى. أطفال مستلقون على حافة الطروطوار. توقف قليلا. مرت بخاطره أفكار شتى كانت تنثال عليه كندف الثلج باردة قاسية. حاول أن يفهم ما يجري. أهو في كابوس يستولي عليه في عز النهار ؟ زادت أشعة الشمس المحرقة في حيرته ولم ينبس ببنت شفة. رغم وجود الحافز الذي يحمل كل ذي عقل على استفسار ما يقع لغيره إذا كان يظن أنه يتصرف تصرفات الحمقى...

على بعد أمتار منه، شاهد حشدا من الناس متجمهرين على شكل حلقة، كأنه يعيد أيام جامع الفنا مرة ثانية، يوم زارها في ريعان شبابه. اقترب فليلا، قليلا حتى وصل إلى ذاك الحشد. انسل بين المتجمهرين حتى أخذ له مكانا يسمح له بمشاهدة ما يجري داخل الحلقة. كل الناس صامتون على غير ما كان يرى في الحلقات التي كانت تقام في الأسواق الأسبوعية في بلدته. الصمت والسكون كانا سيدا الموقف هناك. لم يكن هناك أي ممثل أو "حلايقي" يفرج على الحاضرين. كان وسط الحلقة خاليا والكل صامت. زاد هذا المشهد من حيرته. أحس بحزن شديد يستولي عليه، ثم ببردات خوف تغمر قلبه وبدأ يهتز في مكانه. لم يسبق له أن عاش هكذا تجربة لذا استولى الخوف عليه سريعا لما تيقن أنه وحيد بين مئات الحمقى المجانين، وهو الذي اعتاد هذا النوع من البشر قليلا جدا، وغالبا ما يزج بهم داخل مستشفيات خاصة بهم. فإذا به ينقلب السحر على الساحر. هذا ما رآه بعينيه وأحسه بقلبه.

كانت عيون أولئك المتجمهرين مسمرة على الفراغ والوهم. هدفها وسط الحلقة الفارغ. غادر بوشعيب الحلقة بحذر شديد وكأنه يفر من الوغى. مانحا رجليه كل الحرية في مزاولة الهروب البطيء دون أن يأخذ أحد باله منه. على بعد أمتار منه تجمع للطاكسيات - سيارات الأجرة الصغيرة - فكر مليا إلى أين يذهب له في الوصول إلى حل مقنع. مشى قليلا بطيئا. انزوى إلى ركن أحد البنايات العمومية. رجال الأمن في هذه اليام لا يمرون بالشارع بعدما تبين لهم أن كل الناس قد جنوا وأن لا خوف منهم لإثارة الفوضى أو الشغب. قرر أن يقصد مقرهم ليستفسر عن هذا التغير المفاجيء الذي طرأ على الناس جميعا. اقترب من باب المقر. قصد رجل أمن يحمل بين يديه سلاحا كالذي يباع عند بائعي اللعب أيام عاشوراء. لم يهتم للأمر كثيرا. كان هندام الشرطي وسحنته وملامحه تدل على أنه إنسان غير طبيعي. اقترب منه أكثر وبادره بالسؤال:

_ أيمكنني، يا سيدي، أن أقابل السيد العميد ؟.

لم يجبه الشرطي. ولم يعمل جهدا حتى ليرى في وجهه. أحس بوشعيب كأن العالم كله قد جن، وقد أصابته جمرة خبيثة من الجنون والحمق. صمت. تراجع قليلا. هبط أدراج المبنى. التفت يمنة ويسرة. ولما لم يحس بأي عين تراقبه، أشار بيده لسيارة أجرة كانت تمر بالشارع. دون أن يحدد المكان الذي سيقصده، قال في نفسه وهو يركب السيارة: والله، إنه الجنون.

لم يطلب من سائق الطاكسي أي شيء، وهو أيضا لم يسأله عن وجهته. خاف بوشعيب أن يكون ممسوسا بالجنون. صمت. ترك السيارة تتجه به أينما أرادت، وأينما فرض الجنون على السائق الذهاب. وبعد قليل، وبعد أن قطعت السيارة بعض الكيلومترات والتهمت بعض الشوارع، توقفت فجأة أمام بناية ضخمة جديدة، لم يسبق له أن رآها من قبل. قال في نفسه: هل بنيت من جديد ؟ هل أصلحت فقط، وجهزتها الدولة لتخصصها لإدارة عمومية ما ؟. لم يكذب في الخبر. نزل من السيارة. توجه إلى بابها. لم يصدق نفسه. فوجيء بالعبارة المكتوبة على البوابة والتي تقول: هذا مستشفى الأصحاء. الآن فقط اكتملت كل الحلقة التي ابتدأت بالجنون وانتهت بالعقل. أحس بوشعيب بدوار ثم بغفيان. ثم أغمي عليه...

نهض بوشعيب جالسا. قام بنظرة محيطة على مكونات المكان الذي يتواجد به. ثم صرخ قائلا: أين أنا ؟ ماذا وقع لي ؟.

انتبه على صوت شخص يفتح باب الغرفة، كان طبيب المستشفى، توجه إليه، بدأ يربت على كتفيه ويهديء من روعه:

- لا تخف، أنت داخل مستشفى الأصحاء....

عزيز العرباويكاتب

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
التعليقات
عزيز العرباوي
2009-05-21
شكرا لك على قراءتك الطرطوار : هو الرصيف .. الطاكسي : سيارة الأجرة .. الحلايقي : الحكواتي ... على العموم لم تكن لدي النية في زيادة الطين بلة كما يقال ... تحياتي
س.أل
2009-05-21
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نرجو من الاخ الكاتب ترجمة بعض الكلمات مثل الطرطوار والطاكسي والحلايقي ..واعتقد باننا وابناء العراق على وعي ودراية بكل مايجري ولسنا بحاجة الى كتابات مجنونه لان ما بينا يكفينا .. تحياتنا للاخ الكاتب العرباوي؟؟؟؟؟؟
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
محمود الراشدي : نبارك لكم هذا العمل الجبار اللذي طال إنتظاره بتنظيف قلب بغداد منطقة البتاويين وشارع السعدون من عصابات ...
الموضوع :
باشراف الوزير ولأول مرة منذ 2003.. اعلان النتائج الاولية لـ"صولة البتاوين" بعد انطلاقها فجرًا
الانسان : لانه الوزارة ملك ابوه، لو حكومة بيها خير كان طردوه ، لكن الحكومة ما تحب تزعل الاكراد ...
الموضوع :
رغم الأحداث الدبلوماسية الكبيرة في العراق.. وزير الخارجية متخلف عن أداء مهامه منذ وفاة زوجته
عمر بلقاضي : يا عيب يا عيبُ من ملكٍ أضحى بلا شَرَفٍ قد أسلمَ القدسَ للصُّ،هيونِ وانبَطَحا بل قامَ يَدفعُ ...
الموضوع :
قصيدة حلَّ الأجل بمناسبة وفاة القرضاوي
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
فيسبوك