ترجّلت من جواد الحياة ولمّا تشبع نهم هذه الأمة من نمير روحك وهي بأمسّ الحاجة إليه، هذه الروح التي ألهمت مسارها عزماً تتواضع أمامه الجبال الصمّ، وملأت روحها كرامة وشرفاً ما يجعل هممها تتعالى على عظيم المهام وجسيم المسؤوليات، ورويت إهابها من معين الثبات أعلاه، ومن معدن الشجاعة أمضاه، ومن خالص نكران الذات أصفاه.
ترجّلت يا أبا هادي في وقت كان فيه طاعون الاستكبار وغطرسة الصهاينة وخيانة الأعراب وغدر المنافقين قد ساوموك بين دنيا باذخة الثراء فاحشة الوجاهة ولكنها مرهونة بالذلة ومقرونة بالعار ومشروطة بالخيانة، وبين سلّة فيها مرير البلاء، وشديد اللأواء، ولكنها مترعة في العزّة فأبيت إلا أن تقتفي من أثر جدّك الحسين (صلوات الله عليه) ما يجعل من صبرك مدرسة، ومن عزمك معلماً، ومن فدائيتك مناراً، ومن إقدامك مشعلاً، ومن شجاعتك نهجاً، ومن مضائك نبراساً، وأبيت أن يختار الطغاة لك موتاً ذليلاً، بل سموت وتعاليت فانتخبتَ لذاتك شهادة هي الأعلى في درجتها، وعانقتها بأشد الإصرار، وأسمى صور الوقار.. وأيّ شهادة أسمى من أن تكون قتيلاً بأيدي أرذل خلق الله وأشدّهم على دينه وعباده، وفي معركة هي الأنبل، وتحت راية هي الأشرف، فالمعركة ضد الصهاينة وتحالف الاستكبار ومن أجل القدس الشريف لا تدانيها في النبل أيّ معركة أخرى، وأيّ راية أشرف من راية التمهيد للإمام المهدي صلوات الله عليه مستظلاً بالمرجعية الهادية ومتوسماً بالتكليف الشرعي من أجل نصرة المستضعفين وحمايتهم .. فسرت في طريق الشهادة شامخ الهمّة، ثابت القدم، رابط الجأش، شديد الشكيمة، لا تبالي بالشامتين، ولا تحفل بالمرجفين، وليس أمامك إلا أن تصل لإحدى الحسنيين، تزلزلت الدنيا تحت أقدامك فلم تزل، وتعاظمت هزاهز الاستكبار فلم ترضخ .. ومسار كهذا ليس له إلا أن تصل فيه إلى مبتغاك ومنيتك، فيا لهنائك فيما وصلت إليه، ويا لنعمائك بما بلغته، ويا لسعادتك في رحلتك من ديار الظالمين وأنت تقول كما قال جدك الأمير (صلوات الله عليه): لمثل هذا فليعمل العاملون
رحلت يا أبا هادي ونحن مطمئنون بأنّ لله أمر هو بالغه في هذه الشهادة التي حظيت بها، بل إنّ نفوسنا لتعمر بالسكينة، لأننا نعلم أنّ هذه المسيرة التي كنت فيها علماً وقائداً؛ لها من يرعاها، ويدبّر أمرها، وقد أريد لدمك الطاهر أن يكتسح كل مكر الاستكبار ليصنع أمة لا يضيرها إن أقبلت على الموت أو أقبل عليها من أجل الحق الذي أنرت به البصائر وفتحت به مغاليق العقول، فهذه الأمة إذ باتت على مشارف العزّ المهدوي تحتاج إلى مرجل تلو مرجل من الوعي والبصيرة النافذة، وإلى مشعل تلو مشعل من القادة الأسوة والهداة القدوة، وها أنت رحلت بعد أن رحل رفاق دربك الحاج قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس ومن قبلهما الحاج عماد مغنية ومعك صفوة المخلصين وخيار المجاهدين السيد فؤاد شكر ورفاقه والحاج إبراهيم وإخوته (رضوان الله تعالى عليهم، ولكن دربك لن يرحل، ونهجك لن يترك، ورسالتك لن تمحى
غادرتنا يا أبا هادي ونحن في أمسّ الحاجة إلى نهجك وسراة دربك، ووالله إنّ الرزء بفقدك لعظيم، والخطب بفراقك لجلليل، والألم بفجيعتنا بك لممض، والجرح بمصيبتك لنازف، وقلوبنا بقتلك مكلومة، وأكبادنا بما جرى لحرّى، ولكننا ندرك تماماً أنّ ما أوقدته في قلب هذه الأمة لن ينطفأ أبداً. فأنت من الصنف النادر جدأ الذي يمرّ بالتاريخ فيأبى الله إلا أن يتحوّل إلى يقظة ووعي يلهب عزم الباقين وينبّه به غفلة الغافلين، وتشحذ به همم الأجيال القادمة لتدوم الرسالة ويعزّ به الدين وأهله.. ولئن أراد الاستكبار بك مكراً فإنّ الله أبى إلا أن يجعل من دمائك الطاهرة ما فيه مكراً بهم وهلاكاً لحلفهم وتبديدا لجمعهم، وما ذلك على الله بعزيز
هاجرتنا كما الطيور المهاجرة بلا وداع يا أبا هادي وعزاؤنا أنّ دربك يعجّ بالميامين الذين يفون الحق ويؤدّون الأمانة، وعزاؤنا أنّ جهدك ومظلوميتك في عين صاحب الزمان (صلوات الله عليه) فهو المعزّى بك، وما يطيّب خواطرنا بفقدك أنّ الثورة الإسلامية وقائدها المفدى سماحة آية الله العظمى السيد على الخامنئي دام ظله الشريف وأشراف هذه الأمة وأحرارها وأُباتها هم المؤتمنون على الدرب الذي رعيته وسهرت عليه، وهم أولياء دمك الطاهر ورفاقك الأبرار.
اذكرنا يا أبا هادي وأنت نزيل النعيم المقيم مع أجدادك الطاهرين وفي رحاب جدتك الطاهرة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها وعليهم) بأن نكون على الأثر نمضي حيث مضيت، ونرحل كما رحلت مع إمام منصور من أهل بيت محمد (صلوات الله عليه وعليهم)...
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
جلال الدين على الصغير
في الخامس والعشرين من ربيع الأول ١٤٤٦
https://telegram.me/buratha