في مثل هذا اليوم منذ ما يزيد على الأربعين سنة وتحديداً في يوم 11/2/1979 كنت في زنزانتي الإنفراديةفي البناية الحديثة لمديرية أمن بغداد قريبا من ملعب الشعب الدولي، والتي كان قد تم افتتاحها حديثاً، ولعلي أول من استوطن تلك الزنزانة، كنت في عمر يزيد ببضع أشهر على الواحد والعشرين سنة، وكنت في تلك الفترة أنتظر تحويلي إلى مديرية الأمن العامة بعد أن لم يستطع محققوا الشعبة الخامسة أن يخرجوا بحصيلة مفيدة لهم رغم شدة التعذيب الذي تلقيته طوال ما يقرب من ثلاثة أشهر من الاعتقال بين الشعبة الخامسة في كربلاء وبين نظيرتها في بغداد، كان التحقيق المزعوم يكاد أن يكون قد انتهى في تلك الفترة، إذ كنت وقعت على إفادة وأنا مغمض العينين، وهذا يعني مبدئياً انتهاء التحقيق.
وللإنصاف فقد كان الجلادون أكفّاء ومهنيون جداً في صنعتهم، فالتعذيب طال قرابة الأشهر الثلاث والتي سلفت وكان احترافياً ومتميزاً للغاية، ويكفي أن يكون التحقيق قد تولاه المجرم الشهير فاضل الزركاني معاون مدير أمن بغداد يومذاك، بمعية المجرم محمد التكريتي ضابط تحقيق الشعبة الخامسة يومئذ وكان بديلاً على ما يبدو عن المجرم نوري الفلوجي ومعهم جوقة الإنس المفوض قدوري وفلاح وأمثالهم، وذلك بعد حفلات التعذيب في كربلاء على يد مدير أمن كربلاء حذيفة الغضبان،وضابط تحقيق الشعبة الخامسة المجرم رفعت التكريتي والجلاد شاكر السماوي.
ولهذا لم أتوقع أن يتم مناداتي إلى التحقيق مجدداً، ولكن حينما سمعت رئيس العرفاء حكمت وهو أحد أسوء مسؤولي الحرس الذين رأيتهم طوال فترات اعتقالي، ينادي على اسمي تصورت أن يقال لي أن أجمع أغراضي للتحول الى سجن مديرية الامن العامة، ولكن رؤيتي لصادق مراسل شعبة التحقيق جعلني أعيش قلقاً كبيراً، فالدعوة إلى شعبة التحقيق مجدداً لا تعني إلا قصة واحدة لا غير وهي أن ملفاً جديداً قد تم فتحه، وهذا ما يعني العودة إلى حفلات التعذيب، وما تعني هذه الجملة من معنى للجوارح وأعضاء البدن، كانت تقلصات البطن قد أخذت مأخذها، ووجيب القلب لم يك وجيباً بقدر ما كان يمكن أن تسمع له طنين ورنين وعندئذ سمّه ما تسميه.
كان إلى جواري في الزنزانة على اليمين زنزانة انفرادية أخرى فيها يومذاك سيدة كانت تنتمي إلى الحزب الشيوعي (الكفاح المسلح) إن لم تخني الذاكرة، وإلى يساري كان موقف مديرية الأمن والذي يتم فيه إيداع رجال الأمن الذين تصدر بحقهم عقوبة ما، وغالبيتهم يومئذ كانوا من أمن المطار، وقد زادتني تعليقات هؤلاء الشامتة مشاعر الخيفة والقلق ممّا يدور في أروقة الشعب التحقيقية إذ غالباً ما كان هؤلاء يعرفون بما يجري في هذه الشعب.
على أي حال خرجت من زنزانتي متباطئاً وسط زعيق حكمت وتوتره، وسرعان ما وضعت العصابة على عيني واقتادني صادق إلى مقر الشعبة، وقد سألته عن سبب الإستدعاء فأنكر أن يكون قد عرف شيئاً، وفي الغالب كنت أحسبه صادقاً في مثل هذه الامور لطبيعة العلاقة التي امتدت عبر فترات الإعتقال السابقة والحالية، وعلى أي حال وصلنا إلى الطابق الثالث أو الرابع لا أتذكر بالضبط فسمعت فاضل الزركاني ومحمد التكريتي يتحدثون، وما أن تم إدخالي إلى غرفة التحقيق حتى ابتدأ المحققون عملهم الذي لا يجيدون غيره، لم يك الضرب المبرح هو الذي يقلقني بقدر ما كان يقلقني السبب الذي تم استدعائي لأجله، لم يمض وقتاً كثيراً حتى تم تعليقي لممارسة ما كنا نسميه رياضة الفلقة، وهذه الرياضة تختلف أدواتها من مكان إلى آخر رغم أنها من حيث المضمون واحدة، وكان نصيبي في الشعبة الخامسة أن تكون الخشبة التي يتم تعليق الرجلين من خلالها بمقاس 2.5 إنج في ما يماثله، بحيث مع أول برم لحبل الطنّب على القدم وهو الحبل المتخذ من الليف ويتميز بقسوته الشديدة على البدن، يتم لصق الخشبة على عظم الساق من جهة وعظم الكعب من جهة أخرى ومع حرص الجماعة على إتقان عملهم فقد كانوا كرماء في عملية برم الحبل، وهي عملية لوحدها كانت تمثل تعذيباً لا يطاق، ولا أدري إن كان الضرب الذي ينهال من بعدها على الأقدام ينسينا قسوة الحبل وخشبته، أم أنه هو الذي ينسينا الكرم الحاتمي في عدد الكرابيج التي نسميها بالصوندات والتي كانت تتلوى على أقدامنا وما تلوحه من بقية الجسم.
كان الضرب مستمراً من الساعة العاشرة صباحاً أو ما يزيد عليها بقليل دون أن ينطق الجلادون أي كلمة عن السبب، وما كانت أسئلتي لهم عن السبب لتجد جواباً، وإنما كان الصوت الوحيد الذي يسمع هو وقع الصوندات على البدن، وما يندّ من المعذبين من أنين أو صراخ أو تأوّه أو ما شاكل، إلى أن استسلمت لقدري وما عدت أسألهم عن سبب تعذيبهم إياي، كانت الصوندة المستخدمة في الغالب هي ما كانوا يسمونها برقم7 وهي في حقيقتها هوز من مطاط سميك يتم ضغطه على بعضه أو كيبل كهربائي يتم سحب أسلاك النحاس منه، بعرض يقرب من الأصابع الثلاثة، ويتم دهنها بمواد من شأنها أن يجعلها مطواعة لمداراة أجساد الذين تعانقهم بلسعاتها!! وأما الجلاوزة فقد كان إثنان منهم يحملان خشبة التعليق وإثنان يتولان الضرب، وضربهما كان حميمياً جداً فهو ضرب من يلاحقك بقتيل، لا يعرف أية رحمة ولا يعرف الراحة، فلو تعب الحاملون يتم استبدالهم بغيرهم، ونفس الأمر يحصل مع الذين يتولون الضرب، ظل القوم يمارسون الضرب إلى أن قرروا التوقف عن استخدام الفلقة، وتم سحب الخشبة من الحبل فيما كان نزف الدم قد أخذ مأخذه من عدة مواقع في قدمي كما يظهر من انزلاق القدم على بلاط غرفة التحقيق، ولكن ما أن تحررت الخشبة من الحبل حتى وجدت نفسي أضرب بها بطريقة حرة!!
في التعذيب كان المحققون يستخدمون الفلقة مع نمطين من المعذبين، أولهما من يمتلك المعلومات، وثانيهما من له شأنية اجتماعية ولا يريدون للتعذيب أن يترك عاهة ظاهرة، ولهذا يكون التعذيب بالفلقة مع أنه أكثر ألماً وأكثر تأثيراً من أي وسيلة أخرى، غير أن فيه امتياز أن مناطق محددة من الجسد هي التي يطالها التعذيب، أما في التعذيب الذي أطلق عليه مجازاً بالضرب الحر، فإنه لن يتقيد أين ستقع الضربة، والخشب بطبيعته له أذية أكبر من غيره، خاصة وأنه طال المناطق القابلة للكسر كاليدين والساقين والظهر، وعلى أي حال بعد ثلث ساعة من الاحتفال أعلن المحققون انتهاء الجولة، وقد دامت إلى ما يزيد على الساعة الواحدة والربع تقريباً.
حملوني ووضعوا حذائي بما يمكن أن يتسع من قدمي التي تورمت إلى حدود بارزة، ولكن بقي القلق يساورني بشدة عن سبب ذلك، فلا هم سألوا عن أمر، ولا تحدثوا عن أمر، ولا طلبوا التوقيع على أمر، وإنما كل الذي حظيت به هو سكوتهم مع ما كانوا يمارسونه من تعذيب، وأنزلني صادق بمعية رجل آخر منهم حتى استلمني منهم حكمت رئيس الحرس الذي أفاض من قذر لسانه ما أفاض كعادته مع كل السجناء لا سيما السياسيين، وعدت إلى زنزانتي وأنا لا أقوى على أي حركة، ولكن الهاجس الذي كان يقضّ مضاجعي لماذا استدعوني مرة أخرى؟ وهل سيعاودون الكرّة من جديد؟!
من حسن الحظ أن مناوبة حكمت تنتهي عند الثالثة ويأتي بعده رئيس عرفاء اسمه يونس الشمري، وكان الرجل من أحسن الناس خلقاً ورحمة بالسياسيين في ذلك الظرف، ومن أشدهم على المعتقلين لأسباب أخلاقية وأمثالها، ولأني كنت في الإنفرادي وتحت التعذيب فقد كان يحيطني بعناية بالغة، وكعادته كان أول ما يأتي يفتح الأبواب لغرض استخدام الحمامات بعد أن يكون حكمت قد مارس كل نشوته في حرمان الإنفرادي من ذلك، ففي العادة كانت حصتنا نصف ساعة في اليوم، ولكن يونس في هذا اليوم كان على غير عادته، فما أن أطل عليّ حتى بارك لي ما حصل في هذا اليوم، فقلت له متهكماً ومستغرباً: هل تبارك لي على حفلة التحقيق؟ فقال لي: بل أبارك لك انتصار صاحبك!!
أنا دخلت إلى السجن وكانت الأحداث العامة متعلقة بحدثين كبيرين الأول كامب ديفيد وصلح السادات مع مناحيم بيغن رئيس وزراء العدو الصهيوني، وكنا تواقين في أن ينتقم الله من السادات على خطوة الخيانة تلك، والأخرى أنّ الشعب الإيراني كان منتفضاً ضد الشاه المقبور بقيادة الإمام الخميني رضوان الله عليه، ولكن وجودي في الإنفرادي يعني ألّا أعرف أي شيء عما يجري في الخارج، وتصوّر انتصار الثورة الإسلامية في إيران كان عسيراً لطبيعة جبروت الشاه والدعم الأمريكي والإسرائيلي له، ولذلك استوضحت من يونس مجدداً عما عناه في مباركته، فقال لي والبسمة على ثغره: انتصر الخميني!! قالها وسارع بالخروج من الغرفة!
يا الله كانت أول كلمة انطقها حينما سمعت بالخبر على شكل صرخة خافتة، ومعها كانت عيوني تذرف دموع الفرح ولعلها اول مرة في حياتي أبكي فرحاً، وكان لساني يلهج بكلمات الحمد والشكر لله!! جسمي الذي كان ينزف، وقدماي التي كان الورم قد علاهما لم يمنعهما من أن أقف عليهما لأقفز في أرجاء الغرفة من جراء الفرحة بعظيم النعمة الإلهية التي حصلت، ولكن حينما عدت الى آلامي وجراحي فاني لا أخفي أنّ بعضاً من فرحتي كان مرتبطاً أيضا في معرفتي بسبب التعذيب الصامت الذي نلته صباح اليوم!! فالنظام أرسل بطاقة مشاعر أحقاده بشكل سريع، وسار من بعده جحفل الرعاع!!
https://telegram.me/buratha