في الحديثِ عن غارةِ غَزّة، فالجميع تابع سجال المسار من تهديدٍ بأعلى اللّهجات إلى أن انتهى إلى التجميد، وهذا لم يأتِ من فراغ، بل لأنّ شرائط المعركة ومعطياتها أثبتت أنّ الموازين اختلفت بوجود عوامل متعددة كان الصهاينة في السابق لا يفكرون بها، وما هذا إلّا بلاهة وحماقة قاتلة في التقدير الاستراتيجي، فعلى مدى سنوات الإجرام كان الفلسطينيون لا يحظون بأكثر من بياناتٍ الإدانةِ والاستنكار وما شابه إزاءَ كلَّ جريمةٍ تحصل، ولكن هذه المرة فإنّ الحديث يتم بلغةٍ أخرى حينما دخل المحور المقاوم على الخط مباشرة، وهو أمرٌ يمكن تلمّسه بموقف المرجعية الدينية في النجف الأشرف والقيادة الإسلامية في طهران، وهو الموقف الذي تحدّث عن واجب نصرة الشعب الفلسطيني والتحذير من التمادي الصهيوني لأنّه سيذهب بالمنطقة إلى ما لا يمكن تصوره، وهو بأيِّ حالٍ لن يُبقي الجغرافية السياسية على حالها، وهذا الواجب حينما تنطق به المرجعية فإنّه ليس كأيِّ بيانٍ يصدر من هنا وهناك ؛ وإنّما مثل هذه الكلمات تقف لها الملايين على أُهبة الاستعداد وهي مسلَّحة بتقنياتٍ قتاليةٍ وباقتدارٍ كبيرٍ لن يتمكّن الصهاينة من الوقوف أمامها أبداً.
بطبيعة الحال أطلق هذا الإنذار سلسلةً كبيرةً من الحراك الدبلوماسي، ونتيجةً له جاء "بايدن" مسارعًا ليتكلم عن ضرورة ألّا يعمي الغضب الصهيوني عن مشاهدة المخاطر الجسيمة، وأستطيع القول بأنّ مجيىء "بلينكن وبايدن" كان لإدارة المعركة وفق المعطيات الجديدة بعد أن فشل الصهيوني في ذلك، واستعدادًا لمعركةٍ أكبر من الوجود الصهيوني، إذ بدا واضحًا أنّ الصهاينة لم يكونوا يدركون ماذا يفعلون، وقد بلغ التراصف الغربي إلى التفكير بتحالف دولي لمواجهة استحقاق المعطيات الجديدة.
إنّ واحدة من أهم المعطيات هو اختراق المعادلة التي استطاعت أن تقيّد الملف الفلسطيني بقيود حديدية تعاونت على إيجادها الحكومات العربية والغربية، وغلّفتها بأُطُر المواثيق والمعاهدات والاتفاقيات وما الى ذلك، وتمكّنت حدود سايكس بيكو أن تحيط الكيان الغاصب بسلسلةٍ من الحكومات الخائنة أو الخاضعة كي تبقى الحدود الجغرافية الأمنية للكيان تمتد إلى هذه الدول، فبالنسبة للعراقي لا يمكنه أن يشكّل خطرًا أمنيّاً طالما أنّ الحدود مع الكيان مرهونة بالأردن وسوريا، وهكذا الأمر بالنسبة لبقية الشعوب، وبالتدريج تم إخراج القضية الفلسطينية من كونها مطلبًا إسلاميّاً إلى مطلبٍ عربيّ، ومن بعدها الى مطلبٍ قطريّ يتعلق بالفلسطينيّين أنفسهم، ومن بعدها قُسِّمَت فلسطين الى قسمين هما : فلسطينيّو ١٩٤٨ وفلسطينيّو الضفة الغربية وقطاع غزة، ثم جاءت خديعة الدولتين وما تمخّضت عنه اتفاقية أوسلو… أمّا المعطيات الجديدة فقد مزّقت هذا الواقع، وأخرجت القضية الفلسطينية من واقعها الديمغرافي والسياسي المحدود جداً إلى الواقع الإسلامي.
وحتى أوضّح أكثر أقول: لقد تمكّنت السياسات السابقة أن تحاصر فلسطين في غرفة صغيرة معزولة، وافترضتها دولة كبقية الدولة لا تتجاوز حدودها ويفترض أن لا يتجاوز حدودها أحد آخر، مع أنّ الواقع السياسي أثبت أنّ المعادلة هنا تعمل من طرف واحد؛ فللصهيوني أن يتجاوزها متى ما أراد، بينما لا يسمح لها بأدنى قدرٍ من تجاوز مقدار ما أتيح لها، وواقع غزة المعاصر شاهد على ذلك، ولهذا حينما قلنا بأنّ المعركة يجب أن تبقى فلسطينيّة، فلمحاكاة الواقع السياسي بما هو واقع، ومن أجل تأمين إدانة للصهيونيّ بعنوانه منتهكٌ لما يسمى بالشرعية الدولية مع عدم إيماننا بهذه الشرعية لكونها مبتنية على القهر والاستكبار، وليس على خيارات الشعوب نفسها، ولكن بعد تأمين صورة الانتهاك الصهيوني لهذه الشرعية وتمزيقها، إذن فقد تم اختراق قواعد الاشتباك ،ووجدت البيئة المناسبة لإعادة الأمور لنصابها الحقيقي ــ وأعني بذلك عودة القضية الفلسطينية إلى بيئتها الإسلامية التي يتم فيها التعامل على المسؤولية التضامنية التكاملية بين كل المسلمين ــ وبالنتيجة ما عاد لأحد أن يتكلم عن الواقع الجيوسياسي والديمغرافي بناءً على مقتضيات سايكس بيكو ؛ بل يجب أن يحلّ محله القاعدة التي سنّها الحديث الشريف: (المؤمنون في تبارّهم، وتراحمهم، و تعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى تداعى له سائره بالسهر والحُمّى). [كتاب المؤمن: ٣٩ ب٣ ح٩٢]
ومثال على ذلك فإنّ بلاد المسلمين كبيوتٍ في شارعٍ واحد، ولكلّ بيت خصوصياته التي يجب أن تُرعى وتُحمَى وتُحتَرم، فالمسلم مُصانُ الدمِ والعِرضِ والمالِ، ولكن لو أنّ هذا الشارع تعرّض لخطرٍ من خارجهِ أو من داخله، فإنّ الواجب يحتّم على الجميع الوقوف إزاء الخطر سِيّان في ذلك أكان من الداخل او من الخارج.
وعليه فإنّ حراك المرجعية الدينية وهي تنزل بأعلى ثقلها الديني والسياسي لنصرة فلسطين هو الجواب الوحيد الذي يمكن أن يوقف الاستهتار الصهيوني والاستكباري، وأعتقد هنا أنَّ سعي الأمريكيّين وحضِّهم لحلفائهم في تجميد الغارة على غزة إنّما هو لتدارك هذا الخطر الداهم الجديد الناجم من إلغاء قواعد الاشتباك السابقة وعودة المعادلة الإسلامية للتعامل مع فلسطين من جديد.
إنَّ الحديث عن تأجيل الغارة على غزة وتجميدها هو محاولة لكسب الوقت لتجميع الغرب كل قواته لمواجهةٍ أشدّ المخاطر عليهم، ولذلك تراهم نسوا روسيا ونسوا الصين في قائمة الأولويات ؛ لأن الكيان الذي زرعوه في المنطقة يتعرّض لأول مرة لخطرٍ وجودي حقيقي، وهو بصراحة بالنسبة للمسلمين الفرصة الثمينة التي يجب أن لا تُفوَّت خاصّة وأنّ المعركة ما عادت تتوقف عند حدود الدول التي تحيط بالكيان، ففي عهد الطائرات المسيرة والصواريخ الموجهة وتلاقي المستضعفين في الأنفاق وعلو اقتدارهم انتفت الكثير من دروع حفظ الوجود السرطاني.
إنّ الحديث عن الجهود المتنامية والمتسارعة لمحور المقاومة الذي أحاط بجداره الناري بالكيان الصهيوني وبمصداقية عالية ليبعث الأمل الوطيد ولأول مرة بشكلٍ جادّ بأنّنا نستطيع أن نخرق المستحيلات الغربية المستكبرة لنحوّلها إلى خرقةٍ باليةٍ.
هذا وللحديثِ بقيَّة…
الحلقات السابقة :
💡قراءات في استراتيجية الأوضاع في فلسطين [٢]💡
💡 المعركة فلسطينية ويجب أن تبقى فلسطينية💡
https://telegram.me/buratha