د.أمل الأسدي ||
إنه يوم الجمعة،اليوم الوحيد الذي تجتمع فيه العائلة، أبو محمد الرجل الذي أرهقته الحياة البعثية العبثية يجلس بين أولاده ويتابع الأخبار علی قناته المفضلة(قناة الميادين) فجأة سمع ابنه يشتم بصوت عال فلسطين!!
ثار الأب وصفع ابنه الذي يبلغ عمره ثلاثة وعشرين عاما، صفعه وهو يقول له:لابارك الله بك،ليتني لم أُنجبك!!
وابنه مازال يصرخ منهارا: مالنا ومال فلسطين؟ الفلسطينيون أحوالهم أفضل منّا!!
فلسطين أرسلت لنا الانتحاريين، أم أنك لم تسمع بذلك من قناتك المفضلة( الميادين)؟!!
نريد أن نعيش ونرتاح،لاشأن لنا بالمقاومة!
يصرخ ويصرخ والأب يقف بعينين جاحظتين ولسان مشلول فاقد الرغبة بالرد، تدعكه الخيبة وتفتت صبره!!
خرج (محمد)من المنزل،وتحولت الظهيرة إلی صفيح ساخن فاقد الأمان، وبقي أبوه مُحلِّقا في سموات رمادية!!
لم يعد (محمد )الی المنزل، بات في منزل صديقه الذي يشترك معه في العمر والفكر!! وضع رأسه علی الوسادة وتذكر الموقف فاختق بعبرته وشعر بضيق شديد!!
مازال يفكر ويتجول وهو مقتنع تماما بأفكاره ورؤيته، ويری أن جيل والده جيل قديم قد حول حياتهم الی غصة!!
فجأة رأی شيخا كبيرا،بيده عصا، يلفه ضبابٌ أخضر، قال له : يامحمد، مابك؟
ـ والدي صفعني،يحسب أني مازلتُ طفلا!
- هون عليك يابني، قسوة الآباء رحمةٌ خفية، لكن لماذا صفعك؟
ـ شتمت فلسطين، ما شأننا نحن بها؟
ـ يامحمد، هل تحب اسمك؟
ـ نعم، إنه علی اسم النبي محمد
ـ محمد حبيبنا،كلنا نحبه
ـ من أنت؟
ـ أنا نبي الله موسی
ـ معقول؟!! ماذا تفعل هنا؟
ـ لأجيب علی أسئلتك
ـ حسنا، أنا مؤيد للتطبيع مع قومك (إسرائيل)
- من قال لك إنهم قومي؟
ـ إنهم يؤمنون بما جئتَ به
ـ ما جئتُ به يابني، هو ما جاء به حبيبنا محمد
ـ لافرق، أنا مع التطبيع، أنا معهم
ـ يابني، لم يؤمنوا بي يوما، أذاقوني الويلات، هذه عصاي تحولت الی ثعبان ابتلع كل ما ألقاه السحرة في مجلس فرعون،ثم ضربت بها البحر فانفلق نصفين، و بعدهاضربت الأرض بها أيضا فانفجرت لهم اثنتا عشرة عينا،ومع ذلك لم تفد بهم كل المعجزات،، تارة يطلبون مني أن أجعل لهم صنما يعبودنه:((اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون ))
وتارةً يعبدون العجل من بعدي، وتارة يقولون لي :نريد رؤية الله جهرة(({ وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون))
لم يثبتوا يوما علی ميثاق أو عهد، من تمرد إلی تمرد، من خذلان إلی خذلان!!
( (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا ))
تخيل، أنهم يطالبونني بالحرب،ثم ينقلبون عليّ:((فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ))
آه يابني،لم يحفظوا عهدا معي وأنا بينهم، وأنا نبيهم فكيف تتصور أنهم يحفظون عهدا مع أحد؟!
ـ لا شأن لي ـ كثيراـ بما ذكرته يا نبي الله، نريد أن نرتاح من شعارات المقاومة!
ـ بني، هل ارتحت أنا رغم كل ما قدمته إليهم؟
ـ كلا
ـ اسمع يا محمد، أنا وسائر الأنبياء وظيفتنا خدمة الإنسان والارتقاء به،وظيفتنا أن نجعل الجميع متعايشا بسلام، لم أقل لهم كونوا دولةً مبنيةً علی أساس الدين!!
ولم أقل لهم اقتلوا وأخرجوا الناس من ديارهم، ولم أقل لهم عادوا أولياء الله، إنما الدين محبة!
ـ لكن بيت المقدس والمسجد الأقصی ليس لنا ـ نحن المسلمين- هو لهم
ـ تعال اجلس بقربي، فالحديث معك ممتع، قل لي:
هل سمعت بالإسراء والمعراج؟
ـ نعم
ـ هو رحلة الرسول محمد من المسجد الحرام إلی المسجد الأقصی ثم إلی السماوات، تنبّه الی هذا الخط ونقاطه، لماذا كان الانطلاق من المسجد الأقصی الی السموات،إلی اللقاء الإلهي؟
ـ لماذا؟
ـ كي يختزل الله تعالی هدف الديانات كلها بمحمد، هذه طريقه، ومن يتبعه يجب أن يتمسك بطريقه، إذن المسجد الأقصی عالمي كما رسالة الإسلام عالمية!
- نريد أن نعيش يا نبي الله، مازلت أرددها
ـ هل ستوفر لك إسرائيل العيش الكريم؟
ـ نعم، سنرتاح
ـ ابني، لو افترضنا أنك الآن أخرجت صديقك من منزله، وشردت أهله، وصار المنزل لك، ماذا ستفعل؟
كيف ستضمن أنه لن يأتي مرة أخری لإخراجك؟ أو يأتي أقاربه لمساعدته؟
ـ لماذا نفترض؟ لا أريد الافتراض
ـ طاوعني يابني، وافترض،وأجبني علی أساس الافتراض
ـ لن أرتاح حينها، سأبقی مضطربا مهدَّدا
ـ حسنا، خذ ورقةً وقلما وارسم لي خطة تدافع بها عن منزلك الجديد
ـ نعم، سأضع خطة داخلية، وخطة خارجية، الداخلية: اُقنع أهلي بأنه منزلنا،مادامت أقدامنا حملتنا إليه، ومادمنا فيه، نموت ولا نسلمه!
والخارجية: أُخيف الجيران مني، حتی لايتقرب لنا أحد بسوء، وحتی يتجنب الجميع الاعتراض عليّ،أو الوقوف مع صديقي، وشي آخر: سأزعم أنه منزلي في الأصل وأنهم كانوا يسكنون فيه واستولوا عليه، هذا الكلام سأجعله ينتشر في كل مكان حتی يغدو أمرا مسلَّما!!
ـ وهل ستطمئن؟
ـ إلی حدِّ ما، لكني سأبقی محتاطا
ـ هو هذا ما يفعلونه يابني،الاستحواذ يقود لمزيد من الاستحواذات، والشعور بأن صاحب المنزل سيعود يوما ما،يجعل الغاصب قلقا،غير مستقر، وعليه لابد من تقوية سلطته ونفوذه بأية وسيلة،ولابد من إشغال صاحب الدار والجيران حتی لايلتفتوا إلی الحقيقة،
خطان متوازيان، يعملان معا: بقاؤهم وسلب الأمان عن جيرانهم، لكن لكل جيران طريقاوأسلوبا بحسب طبيعتهم!
ـ كلامك صحيح يانبي الله، لكن بسبب عداوتنا لهم سنظل نعاني
ـ يابني، من يقتات علی الاستحواذ لن يتخلی عنه أبدا، إن للحرام لذةً تعمي القلوب والأبصار!!
هم يراهنون علی ما تقوله أنت وأقرانك، التخلي عن هويتك وثوابتك سيجعل اصطيادك سهلا، شيئا فشيئا ستتحولون إلی قطيع، متی ما أرادوا حزّ رؤوسكم لن تتفهوا بكلمة،فأبدانكم قد تسممت بطعامهم ولايقوی أحد علی الفرار من القطيع!
- أنا شاب، سأتخرج هذا العام، أين سأعمل؟ وماذا ستقدم لي فلسطين؟
ـ هناك حكومات طبعت معهم وأنت تعلم، لماذا إذن يسحقهم الجوع،يضغط الحرمان علی ضلوعهم؟!!
بني،العراق يقع ضمن أطلس الاستحواذ، ومادام كذلك سيبقی يرواح بين أمرين،إذا تحقق أحدهما في أحسن الأحوال،يُسلب الثاني، وهما: الأمن والاقتصاد
عنصران يضمنان الاستقرار للإنسان، وإذا استقر سيفكر، وإذا فكر سيكتشف الحقيقة، وحين يكتشفها يصبح مهدِّدا،مخيفا،وعليه لابد أن يغيب هذان العنصران!!
فإن تعرضت لحرمان في فترة من الفترات لايعني أنك تستسلم وتفتح الباب للغرباء ليعيثوا في أرضك!!
أجل،طالب بحقك، واعمل ماعليك، وهناك رب يراك ويسمعك!
الآن، قل لي: أي الشخصيات تقدسها؟
ـ الإمام علي
ـ جيد، نحن متفقون إذن، أنا أيضا أقدسه مثلك تماما
فهو نفس محمد(صلوات الله عليهم)
آه يابني،وإني خجل من محمد!! فقد أوصيتهم باتباعه وتصديقه،وبشرتهم به،وأعطيتهم صفاته،حتی أنهم صاروا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم!! ولكن هل تعلم ماذا فعلوا؟
ـ كلا،ماذا فعلوا؟
ـ حشدوا ضده منذ ولادته وأرادوا قتله،فسلمه الله وحفظه حتی إعلان دعوته،حينها كشروا عن أنيابهم،وتآمروا عليه مع قريش،وجمعوا عليه الأحزاب،ليقتلعوا الإسلام قبل نموه،وبقيت مؤامراتهم ضده حتی هذه الساعة، فخيبر تركت فيهم حقدا،مستيقظا لايعرف النوم!!
الآن، سأمنحك هديةً،سأريكَ مشهدين،أحدهما يخص الإمام علي،والآخر.... ستراه بنفسك!
ـ خير وبركة منك يا نبي الله
ـ لكن عدني،تعود وتعتذر من والدك، وعدني بأن تكون حرا،لاتمشي مع القطيع!
- أعدك،وأشكرك لأنك سمعتني،وحاورتني،وجلست معي طويلا، فلم يسمعني أحد هكذا من قبل!
ـ حسنا يابني،أنا سعيد بكلامك،أنتم أهل العراق أذكياء وأصحاب مروءة
- سأخبر الجميع بما قلته لي
ـ لك ذلك، الآن ركز علی ما بين إصبعيّ، وانظر ماذا تری؟
ـ أری عاصفةً وسيدة جميلة، تحيط بها غربانٌ سود ، تحاول نهش جسدها، وقد بدأت تمزق ثيابها!!
كفی أرجوك،كفی
قل لي يانبي الله، من هذه؟
ـ هذه أرضك يابني، وهذه الغربان من تدافع عنهم الآن!! هذا هدفهم سيعرّونها ويستبيحون كرامتها!!
ـ أرني المشهد الآخر،علني أسكن
ـ حسنا، اُنظر....ماذا رأيت؟
ـ الله أكبر، إنه الإمام علي، سيقتلع باب خيبر!!
يا علي يا علي ياعلي،اجعلني معك،أنا معك،ياإمامي التفت اليّ أرجوك!
وهكذا ظل يصرخ حتی فتح عينيه وأدرك أنه في بيت صديقه!! خرج مهرولا (محمد) فقد أجاب موسی علی كل تساؤلاته!!
https://telegram.me/buratha