الشيخ طالب رحمة الساعدي ||
· رحلة تدبّرية مع خطاب " ايها الذين امنوا .." في مضان بعض التفاسير
«تفسّحوا» من مادّة (فسح) على وزن قفل بمعنى المكان الواسع، و بناء على هذا، فإنّ التفسّح بمعنى التوسّع، و هذه واحدة من آداب المجالس، فحين يدخل شخص إلى المجلس فإنّ المرجو من الحاضرين أن يجلسوا بصورة يفسحوا بها مجالا له، كي لا يبقى في حيرة و خجل، و هذا الأدب أحد عوامل تقوية أواصر المحبّة و الودّ على عكس النجوى التي أشير إليها في الآيات السابقة، و التي هي أحد عوامل التفرقة و الشحناء، و إثارة الحساسيات و العداوة.
و الشيء الملاحظ أنّ القرآن الكريم، الذي هو بمثابة دستور لجميع المسلمين لم يهمل حتّى هذه المسائل الجزئية الأخلاقية في الحياة الاجتماعية للمسلمين، بل أشار إليها بما يناسبها ضمن التعليمات الأساسية، حتّى لا يظنّ المسلمون أنّه يكفيهم الالتزام بالمبادئ الكليّة.
وبعبارة اخرى : إنّ مسألة التفسّح في المجالس مسألةٌ صغيرةٌ ليست بالأمر الهامّ، لكنّ أساسها أمرٌ هامّ. إذ إنّ مردّ عدم تفسّحهم للغير هو الأنانية، ذاك الخُلق الذي تحاربه تعاليم الدين قاطبة. وأساسًا فإنّ أنبياء الله وعباده الصالحين يحملون في أيديهم مطرقةً يضربون بها رأس ذاك الصنم الذي اسمه "الأنا"، وكافّة تعاليم الدين هي في سبيل محاربة الأنا. إنّ كلّ من خرج من ذاته وتجاوز "أناه" ولم يكن متكبّرًا ولا مغرورًا ولا أنانيًّا فطريقه إلى الله مفتوح، وإنّ كلّ من كان أسير "أناه" فطريقه إلى الله مسدود. وتظهر هذه "الأنا" في أشكالٍ شتّى: فتظهر حينًا بنحوٍ يقف فيه الإنسان بوجه دعوة الحقّ، كأولئك الذين وقفوا بوجه الحقّ في صدر الإسلام وبعد انتصار الثورة، وكان السبب في ذلك أنانيتهم لا غير، لأنّ الحق ّكان يقول لهم: هذه الامتيازات والإمكانات الباطلة التي اكتسبتموها وهذه الأموال التي استحوذتم عليها وهذه المناصب والمكانة ليست لكم، سلّموها لأصحابها! لكنّهم لم يكونوا مستعدين لتركها، ولأنّهم كانوا كذلك ولأنّهم كانوا يريدون امتيازاتهم، أيّ لأنّهم كانت لديهم تلك الأنانية، فقد كانوا يعارضون الإسلام والقرآن. وتظهر الأنانية حينًا آخر بحيث إني مثلًا أرى شخصًا يمرُّ بجانبي، فأُقطّب جبيني ولا ألقي عليه التحيّة، وهذه هي "الأنا" قطعًا، أو يأتي أخي المؤمن ويقف تحت أشعّة الشمس بينما أنا أستظلُّ تحت السقف وعندي مكانٌ آخرُ للجلوس فيه وبإمكاني دعوته للجلوس مكاني إلّا أنّي لا أنهض، هذه هي أيضًا أنانيّة.
ثم انه قد أشار القرآن الكريم مرّات عديدة إلى الآداب الإسلامية في المجالس ضمن المسائل الأساسية، و منها آداب التحيّة، و الدخول إلى المجلس، و آداب الدعوة إلى الطعام. و آداب التكلّم مع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و آداب التفسّح للأشخاص القادمين، خصوصا ذوي الفضيلة و السابقين في العلم و الإيمان .
و هذا يرينا بوضوح أنّ القرآن الكريم يرى لكلّ موضوع في محلّه أهميّة و قيمة خاصّة، و لا يسمح لتساهل الأفراد و عدم اهتمامهم أن تؤدّي إلى الإخلال بالآداب الإنسانية للمعاشرة.
و قد نقلت في كتب الحديث مئات الروايات عن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمّة الأطهار عليهم السّلام حول آداب المعاشرة مع الآخرين. جمعها المحدّث الكبير الشيخ الحرّ العاملي في كتابه وسائل الشيعة، ج 8، حيث رتّبها في 166 بابا.
و ملاحظة الجزئيّات الموجودة في هذه الروايات ترشدنا إلى مبلغ اهتمام الإسلام بالآداب الاجتماعية. حيث تتناول هذه الروايات حتّى طريقة الجلوس، و طريقة التكلّم و الابتسامة و المزاح و الإطعام، و طريقة كتابة الرسائل، بل حتّى طريقة النظر إلى الآخرين، و قد حدّدت التعليمات المناسبة لكلّ منها، و الحديث المفصّل عن هذه الروايات يخرجنا عن البحث التّفسيري، إلّا أنّنا نكتفي بحديث واحد
عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام حيث يقول: «ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس، و الاستغناء عنهم، فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك و حسن سيرتك، و يكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك و بقاء عزّك» .
ــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha