حافظ آل بشارة ||
مازالت قضية تصاعد سعر الدولار في السوق العراقية لغزا يلفه الغموض ، وحتى خبراء الاقتصاد لم تعد لديهم تلك التحليلات العميقة التي تكشف خفايا اللعبة ، والخوف يلعب دوره في اسكات الخبراء ، لكن في كل الاحوال لا يمكن القول ان ما يجري ظاهرة طبيعية ، في بلد يحتل موقعا عالميا متقدما في الفساد المالي ، ولا يمكن افتراض حسن الظن في تفسير هذه الظاهرة ، لكن لبيان بعض العوامل التي تحيط بالعلاقة بين العملة المحلية والدولار في كل بلدان العالم ، يجب العودة الى نظرية (ميزان المدفوعات) وهي النظرية التي تربط بين الورقة النقدية وما تعبر عنه من سلع وخدمات محلية الصنع ، فالالف دينار سلعيا تعني 4 ارغفة خبز ، او خدميا تعني مكالمة هاتف لخمس دقائق ، ويصح هذا التقدير عندما يكون الانتاج محليا ، لكن عندما يستورد البلد اغلب احتياجاته من السلع والخدمات تتغير المعادلة وتصبح علاقة الدينار بالدولار وليس علاقته بالخبز لان الواردات مقومة بالدولار ، وتلعب الندرة السلعية القادمة من وراء الحدود دورها في تدمير قيمة الدينار ، لان هم التجار والمصارف الفرعية يصبح منصبا على شراء الدولار بالدينار لتغطية كلف الواردات ، اما العنصر الثاني الخطير في هذا المسار فهو ظاهرة مزاد العملة التي هي غير معروفة في بلد آخر غير العراق ، ومن يضع جزء من خزينه من العملة الصعبة في المزاد فهذا يعني انه جرد ثروته الوطنية من اي حماية قانونية ، ورفع عنها الحماية ووضعها في دائرة قانون العرض والطلب ، بينما لا يمكن للسياسة النقدية في اي بلد ان تستقيم مالم تخضع لضوابط الدولة التي ترفض منطق المزاد وتؤمن بالتحكم الدقيق ، نعم اذن كيف اذا ذهبت الامور الى ابعد من مزاد العملة واصبحت سوق الدولار تستخدم لغسيل الاموال وتهريب العملة وغمر المصارف بالارباح الخيالية اليومية الناتجة من المضاربات ؟ انها غابة نقدية مفتوحة يفترس فيها المضاربون والمهربون واللصوص الدينار العراقي ، وعندما وصلت الامور ذات يوم الى حالة من الصراع الاقتصادي الفريد بين المستفيدين الكبار المسلحين الغاضبين قرر طرف سياسي نقل بلطجته من سوق الغسيل والتهريب الى الفضاء الرسمي ليرفع قيمة الدولار ويحقق مكاسب تضاف الى امواله واستثماراته وموجوداته الثابتة المقومة بالدولار ، وذلك يعني اقتصاديا رفع وتيرة التباين الطبقي في اوساط الشعب ، فالاثرياء يزدادون ثراء والفقراء يزدادون فقرا ، وكل من يتلقى راتبه بالدينار يكون قد خسر نسبة عالية من قيمته الشرائية ، فهي حالة غلاء محليا لكنها تنعكس كحالة تضخم خطيرة خارجيا عندما يتقزم الدينار امام الدولار ، اما النتائج النهائية المتراكمة فهي فقر وغلاء وكساد سلعي ، ولكن المراقب السياسي يلتقط من بين كل هذه المفردات مفردة واحدة اسمها السعي لاسقاط قيمة الدينار العراقي ، ثم يقفز الى الذهن صدى معركة الارهاب النقدي وتجويع الشعوب ، ونتذكر فورا انهيار الليرة اللبنانية ، انهيار التومان الايراني ، انهيار الليرة التركية ، انهيارات اقليمية لعملات وطنية وهي ظاهرة بعيدة كل البعد عن البراءة وقوانين الاقتصاد الطبيعية ، انها مخططات ينفذها اسياد الدولار لتجويع الشعوب واركاع الحكومات ، وفقا لهذه الحرب فالعراق منذ البداية ممنوع من الانتاج السلعي والخدمي ، لان الانتاج هو الذي يجعل العملة تدخل الى الدورة الاقتصادية الوطنية فيقوي العملة المحلية لانها تدخل في شراء تكاليف الانتاج ، وتدخل في عوائد السلع والخدمات يعني يكون الدينار في الدورة الاقتصادية ، داخلا في المدخلات والمخرجات ، وهذا الدخول يرفع قيمة العملة تراكميا ويجعلها قوية في ميزان المدفوعات امام كل العملات الاجنبية ، فتتضائل قيمة الدولار امامه ، والدول التي لا تستطيع ادخال عملتها الى الدورة الاقتصادية المكونة من المراحل الاربع (الانتاج ، الاستهلاك ، الاستثمار ، الادخار ) فانها ستشعر بالخطر ، وعليها ان تحرس عملتها من الانهيار بسحب المتداول الى البنك المركزي برفع سعر الفائدة ، وهذا موضوع آخر ، لكن الذي اريد قوله ان اي دولة لا يمكن ان تفكر باضعاف عملتها امام الدولار كما فعل العراق ، ولا يمكن امام ما جرى ان نتوقع ان هناك اغبياء ابرياء في هذه اللعبة ، او ان هناك اجانب طيبين لا يريدون الاضرار بنا ، بل علينا ان نتذكر مأساة عملة تلك الدول التي قرروا جعلها تنهار لاسباب تخص نزعة الاستقلال او المقاومة او رفض التبعية ، انها معركة التجويع لا اكثر ولا اقل .
ــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha