عادل الجبوري ||
على مدى الأشهر القلائل المنصرمة، تصاعد إيقاع الوقائع والأحداث بين بغداد وطهران بشأن الوجود الإيراني المعارض في إقليم كردستان العراق، حتى بدا كما لو أن هناك أزمة حقيقية بين الطرفين تنذر ببعثرة كل الأوراق التي جرى ترتيبها بحكمة وروية وهدوء طوال ما يقارب عقدين من الزمن.
لا يمكن أن ينكر أحد وجود إشكالية عميقة وقديمة، محورها وجود جماعات إيرانية مسلحة معارضة للنظام في طهران، تتخذ من إقليم كردستان العراق ملاذاً لها ومنطلقاً للوصول إلى العمق الإيراني، قبل وبعد منظمة ما يسمى "مجاهدي خلق"، التي جرت تصفية وجودها نهائياً عام 2011. ولا يمكن أن يقلل أحد من أبعاد وتأثيرات وتبعات تلك الإشكالية العميقة والقديمة على مسيرة العلاقات العراقية الإيرانية، فيما إذا لم يُصَر إلى البحث عن حلول ومعالجات واقعية وعملية ومرضية.
تصاعد إيقاع الوقائع والأحداث جاء ارتباطاً بثبوت تورط الجماعات الإيرانية في كردستان العراق بأعمال العنف والشغب التي شهدتها بعض المدن الإيرانية في الأسابيع العشرة الماضية، التي تأكد ضلوع أطراف دولية وإقليمية في دعمها وإسنادها وتمويلها سياسياً وإعلامياً ومالياً واستخبارياً.
وبسبب ذلك التورط، أقدمت قوات حرس الثورة والجيش الإيراني على شن عمليات عسكرية برية وجوية على مواقع تمركز تلك الجماعات، في الوقت نفسه الذي اتخذت فيه الحكومة الإيرانية جملة إجراءات وتحركات سياسية وفق السياقات القانونية. وهي بينما نجحت في تحجيم وتدمير جزء كبير من إمكانيات وقدرات الجماعات المسلحة، فتحت مسارات سياسية ودبلوماسية لتحريك هذا الملف الشائك ومعالجة انعكاساته وتبعاته السلبية على أمنها القومي وعلى علاقاتها بالعراق. فهي، أي إيران، وجهت رسالة إلى منظمة الأمم المتحدة عبر بعثتها الدائمة في نيويورك، طالبت فيها بتنفيذ الاتفاقيات المبرمة مع الحكومة العراقية في مجال إغلاق مقار ونزع سلاح الأحزاب الكردية المعارضة لها في إقليم كردستان العراق، وشرحت فيها بالتفصيل أبعاد ذلك الملف ومبررات القيام بشن عمليات عسكرية داخل الأراضي العراقية قائلة.
وجاء في الرسالة "بعد المشاورات العديدة التي أجرتها جمهورية إيران الإسلامية مع مسؤولي الحكومة العراقية وإقليم كردستان، لم يبقَ أمام إيران خيار آخر سوى استخدام حقها المبدئي في الدفاع عن نفسها في إطار القانون الدولي بهدف حماية أمنها القومي، وبناءً على ذلك قامت أخيراً بعمليات ضد الأحزاب الكردية المعارضة المتمركزة في المنطقة الشمالية من العراق"، و"إن إيران كانت منذ سنوات هدفاً لهجمات تلك الأحزاب، إذ كثفت أخيراً نشاطاتها، ونقلت على نحو غير قانوني كميات كبيرة من الأسلحة إلى إيران لتسليح الجماعات التابعة لها، التي تنوي تنفيذ عمليات إرهابية، ما أدى إلى زيادة الخسارات البشرية والوحشية وتدمير الممتلكات العامة والخاصة".
وفي هذا السياق، أكد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في مؤتمر صحافي قبل بضعة أيام أنّ "في إقليم كردستان العراق 76 بؤرة إرهابية ضد إيران، وقد أدخلت هذه البؤر الأسلحة الإسرائيلية والأميركية إلى البلاد"، مشيراً إلى "فشل المؤامرة الأخيرة التي أثبتت الوثائق لدى الجهاز الدبلوماسي الإيراني أنها كانت تهدف إلى نشر الإرهاب وإشعال الحرب الداخلية، وتقسيم الجمهورية الإسلامية تالياً".
وقال الوزير الإيراني: "كانت لنا في الأسابيع الثمانية الماضية لقاءات في بغداد وطهران مع وفود أمنية عالية المستوى من حكومة بغداد المركزية وحكومة إقليم كردستان العراق"، وهذا ما تناولته رسالة الحكومة الإيرانية إلى الأمم المتحدة التي تطرقت إلى اللقاءات والمباحثات غير المثمرة مع الجانب العراقي، وآخرها مع مستشار الأمن الوطني العراقي قاسم الأعرجي الذي زار طهران في أواخر شهر آب/أغسطس الماضي، وأجرى حوارات مفصلة مع المسؤولين الإيرانيين الكبار، وفي مقدمهم نظيره الأدميرال علي شمخاني.
ويبدو أن الضغط الإيراني أثمر خطوات عملية عراقية في هذا الشأن، من بينها، إعلان الحكومة العراقية وضع إستراتيجية لتأمين الحدود مع إيران وتركيا، وتقضي هذه الإستراتيجية بإعادة نشر قوات الحدود العراقية لمسك الخط الصفري على طول الحدود مع إيران وتركيا، وذلك بالتنسيق مع حكومة إقليم كردستان المحلية ووزارة البيشمركة".
وجاء إعلان الإستراتيجية الجديدة بعد سلسلة اجتماعات للوزراء ومسؤولي الأجهزة الأمنية والقادة العسكريين، رأسها القائد العام للقوات المسلحة ورئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني. علماً أن زيارات رئيس إقليم كردستان، نيجرفان البارزاني الأخيرة لبغداد تمحورت في جانب منها حول ملف القصف الإيراني والجماعات الإيرانية في العراق، وما يتعلق بتركيا في هذا الجانب، وكيفية التعاطي وإدارة ذلك الملف بطريقة تجنّب العراق مزيداً من الخسارات والإحراجات والاستحقاقات، وتحول دون تأزم العلاقة بدول الجوار المعنية.
وبهذا الخصوص، يقول المتحدث باسم قيادة العمليات العراقية المشتركة اللواء تحسين الخفاجي: "إن الحكومة تعمل حالياً وبجد لإرسال قوات عسكرية إضافية إلى الحدود مع إيران لضبطها، وإن هناك تواصلاً وتنسيقاً مستمراً مع الإقليم لنشر قوات مشتركة على الحدود، وإن العراق قادر على إمساك ملف حدوده جيداً ومنع أي تهديد من أراضيه لجميع دول المنطقة، وهذه سياسة عراقية ثابتة، ولم نقبل ولن نقبل بأن تكون الأراضي العراقية منطلقاً لأي اعتداء على أي دولة كانت". ويأتي ذلك في وقت أكد فيه عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي، مهدي تقي آمرلي، "أن حكومة السوداني جادة في تحركها على ملف الحدود مع إيران لمنع استغلال أي فراغ هناك من قبل أي جهات تريد استخدام الأراضي العراقية للاعتداء على إيران أو أي دولة جارة".
وأكثر وأوضح من ذلك كله، التصريحات التي أدلى بها رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني من العاصمة الإيرانية طهران في مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، والتي أكد فيها، "أن الحكومة العراقية ملتزمة تنفيذ الدستور وعدم السماح باستخدام الأراضي العراقية للإخلال بأمن إيران، وأننا نعتمد في علاقاتنا الخارجية مبدأ الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية".
ومن جملة ما قاله السوداني "أن العراق لا ينسى دعم إيران له منذ عام 2003 ومحاربة عصابات "داعش" الإرهابية، وأن الزيارات واللقاءات ضرورية للدفع بتفعيل النشاطات في جميع المجالات". وقال كذلك، "إن الملف الاقتصادي يحظى بأهمية كبيرة لدى الحكومة، وقد اتفقنا مع الرئيس الإيراني على تفعيل اللجنة الاقتصادية المشتركة". وثمّن السوداني "موقف إيران الداعم للعراق في إمدادات الغاز، وأشار إلى أنه "بحث العلاقة والتعاون في المجال الأمني انطلاقاً من حقيقة أن أمن البلدين لا يتجزأ".
هذه التصريحات هي رسائل مهمة جداً، تؤشر إلى المسارات الصحيحة والمطلوبة لواقع العلاقات بين بغداد وطهران، وتؤكد بما لا يقبل الشك أن النقاط والقضايا الخلافية، سواء بشأن الوجود الإيراني المعارض في العراق أو غيره، لا يمكن أن تلغي قدراً كبيراً جداً من المصالح المتبادلة والقواسم المشتركة والتحديات المتشابهة.
والرئيس الإيراني في تصريحاته خلال المؤتمر الصحافي مع السوداني أكد هذه المبادئ والثوابت والمتبنّيات، إذ قال: "إن العلاقات الإيرانية العراقية ليست عادية، بل ذات جذور عميقة قائمة على قيم ومعتقدات الشعبين الجارين، وأن طهران وبغداد تتعاونان في المجالات الثقافية والسياسية والاجتماعية والأمنية، ونحن نتطلع إلى رفع مستوى العلاقات بين البلدين في ظل الحكومة العراقية الجديدة، وأن الأمن والاستقرار في المنطقة يحظى باهتمام مشترك من طهران وبغداد، ومن هذا المنطلق فإن محاربة الجماعات الإرهابية والجرائم المنظمة ومكافحة المخدرات يأتيان ضمن الاتفاقيات المشتركة بين البلدين". مضيفاً، "لدينا وجهات نظر مشتركة في العلاقات الثنائية والإقليمية والدولية، وزيارة رئيس مجلس الوزراء العراقي لطهران من شأنها أن تسهم في حل الخلافات بين البلدين، ونأمل أن يتمكن السوداني وحكومته من اتخاذ خطوات كبيرة في اتجاه تعزيز العلاقات".
ولا شك في أن الأدوار والمواقف الإيجابية المتبادلة لكلا الطرفين، من شأنها أن تفضي إلى حلحلة كثير من العقد والإشكاليات. فهناك الدور الإيراني الفاعل والمؤثر في مساعدة العراق على محاربة تنظيم "داعش" الإرهابي، إلى جانب دور بغداد الإيجابي في تقريب وجهات النظر وتقليص الخلافات ومعالجة الإشكاليات بين طهران من جهة، وبعض أطراف المنطقة من جهة أخرى، كالمملكة العربية السعودية، وهو ما ظهر واضحاً وجلياً خلال الأعوام الثلاثة المنصرمة، حيث رعت بغداد واستضافت عدداً من جولات الحوار الإيراني-السعودي، في الوقت نفسه الذي ساهمت فيه بغداد وطهران في تبني عدد من المبادرات والتحركات لاحتواء وتخفيف أزمات ومشكلات المنطقة، كالأزمتين السورية واليمنية.
وتجمع بين البلدين علاقات ومصالح اقتصادية كبيرة يعكسها حجم التبادل التجاري السنوي، الذي تجاوز عشرة مليارات دولار العام الماضي، وهذه كلها قضايا محورية بالنسبة إلى بغداد وطهران، من المهم جداً تعزيزها وتنميتها وتوسيعها وفق رؤى وآفاق إستراتيجية عميقة، وسياقات وآليات عملية، وأولويات واضحة ومحددة.
وإزاء ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن ملف الجماعات الإيرانية المسلحة المعارضة المتمركزة في داخل العراق، بكل تجاذباته وإسقاطاته، لا يتعدّى كونه جزءاً من مشهد عام مرتبك ومضطرب صنعته وأوجدته ظروف وعوامل مختلفة تراكمت على مدى أربعة عقود أو أكثر، من قبيل انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، ثم شن نظام صدام الحرب عليها بدفع وتشجيع من قوى دولية وإقليمية، وبعد ذلك، حرب الخليج الثانية عام 1991، وخروج إقليم كردستان العراق بمحافظاته الثلاث من قبضة السلطة المركزية وفق ترتيبات أميركية بريطانية بغطاء أممي،
وفيما بعد، احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأميركية عام 2003، وإقحامه في أتون أزمات ومشكلات شائكة ومعقدة ومتداخلة.
ولعل الإشارات الإيجابية التي أطلقها قائد الثورة الإسلامية في إيران، آية الله السيد علي الخامنئي عند لقائه السوداني، وعبّر فيها عن عمق وأهمية العلاقات بين بغداد وطهران، تكفي للقول إن الملفات المعقدة والخطرة بين البلدين لن تبدّد حصيلة أعوام طويلة من الجهود المتواصلة لتثبيت وترسيخ ما هو صائب وتصحيح ما هو خطأ. وبعبارة أخرى، الثوابت هي التي تحدّد مسارات العلاقات بين بغداد وطهران، لا الأزمات، ولا المشكلات العابرة.
ـــــــــــ
https://telegram.me/buratha