الشيخ طالب رحمة الساعدي ||
رحلة تدبّرية مع خطاب " ايها الذين امنوا ....." في مضان بعض التفاسير
القاعدة الثامنة : الاستئناس
أي كيفية الدخول إلى بيوت الناس، و كيفية الاستئذان بالدخول إليها.
حيث تقول الاية : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها. و بهذا الترتيب عند ما تعزمون على الدخول لا بدّ، من إخبار أصحاب البيت بذلك و نيل موافقتهم.
و الذي يلفت النظر في هذه الجملة استعمالها «تستأنسوا» و لم تستعمل «تستأذنوا» لأنّ الجملة الثّانية لبيان الاستئذان بالدخول فقط، في الوقت الذي تكون الجملة الأولى مشتقّة من «أنس» أي الاستئذان المرافق للمحبّة و اللطف و المعرفة و الإخلاص، و تبيّن كيف يجب أن يكون الاستئذان برفق و أدب و صداقة، بعيدا عن أي حدّة و سوء خلق. و لو تبحرنا في هذه الجملة على هذا الأساس لوجدنا فيها الكثير من الأدب الذي يدور حول هذا الموضوع، و هو يعني ألا تصرخوا و ألّا تقرعوا الباب بقوة، و ألا تستأذنوا بعبارات حادّة، و ألا تدخلوا حتى يؤذن لكم، فتسلّموا أوّلا سلاما يستبطن مشاعر السّلام و الود و رسالة المحبة و الصداقة.
و ممّا يلفت النظر في هذا الحكم الذي يتصف بأبعاد إنسانية و عاطفية واضحة، مرافقته لجملتين أولاها: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ و ثانيها: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. و هذا بحدّ ذاته دليل على أن لهذه الأحكام جذورا في أعماق العواطف و العقول الإنسانية، و لو دقق الإنسان النظر فيها لتذكر أن فيها الخير و الصلاح.
و تمّ هذا الحكم بجملة أخرى في الآية التالية: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ.
قد يكون المراد من هذه العبارة أنّه ربّما كان في المنزل أحد، و لكن من لديه حقّ إعطاء الإذن بالدخول غير موجود، ففي هذه الحالة لا يحق للمرء الدخول إلى المنزل.
أو قد لا يوجد أحد في المنزل، و لكن صاحب المنزل على مقربة من ذلك المكان، أو في منزل الجيران بحيث لو طرق المرء الباب أو نادى صاحبه فقد يسمعه، ثمّ يحضر ليسمح له بالدخول، و على أي حال، فالمسألة المطروحة أن لا ندخل منزلا دون إذن.
ثمّ تضيف الآية وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ إشارة إلى أنّه لا لزوم لانزعاج المرء إن لم يؤذن له بالدخول، فلعلّ صاحب المنزل في وضع غير مريح، أو أن منزله لم يهيأ لاستقبال الضيوف! و بما أن بعض الناس قد يدفعهم حبّ الاطلاع و الفضول حين رفضهم استقباله على استراق السمع، أو التجنس من ثقب الباب لكشف خفايا أهل المنزل و ليطلع على أسرارهم، لهذا قالت الآية: وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.
- وهنا ياتي بحث - الأمن و الحرية في حريم المنزل:
لا ريب في أن لوجود الإنسان بعدين: بعد فردي، و آخر اجتماعي، و لهذا فله نوعان من الحياة: حياة خاصّة، و أخرى عامّة. و لكل واحدة خصائصها و آدابها، حيث يضطر الإنسان في البيئة الاجتماعية إلى تحمل قيود كثيرة من حيث اللباس و الحركة، و مواصلة الإنسان حياته على هذا النسق وحده- خلال الأربع و العشرين ساعة- متعب و يبعث على الضجر، إذ أنّه يرغب في أن يكون حرا خلال فترة من الليل و النهار ليستريح بعيدا عن هذه القيود، مع أسرته و بين أولاده، لهذا يلجأ إلى منزله الخاص به، و ينعزل بذلك عن المجتمع بشكل مؤقت، ليتخلص من قيوده، فيجب أن يكون محيط المنزل آمنا إلى حدّ كاف.
و أمّا إذا أراد كلّ عابر الدخول إلى منازل الآخرين، فلا تبقى حرمة لمنازل الناس، و يسلب منها أمنها و حريتها، و بهذا تتحول إلى بيئة عامّة كالسوق و الشارع. و لهذا السبب كانت بين الناس- على مرّ العصور- أعراف خاصّة في هذا المجال. حتى أن جميع قوانين العالم تمنع الدخول إلى منازل الآخرين دون استئذان و تعاقب عليه، و حتى في حالات الضرورة القصوى و لغرض حفظ الأمن و غايات أخرى أجيز عدد قليل على وفق القانون بالدخول إليها.
و نصّت الأحكام الإسلامية على تعاليم و آداب خاصّة في هذا المجال، لا يشاهد نظيرها إلّا نادرا.
حيث نقرأ في حديث أن الصحابي الجليل أبا سعيد الخدري استأذن على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو مستقبل الباب فقال عليه الصلاة و السّلام: «لا تستأذن و أنت مستقبل الباب».
و جاء في حديث آخر أن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب.
من تلقاء وجهه و لكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول: السّلام عليكم، و ذلك لأنّ الدور لم يكن عليها حينئذ ستور.
و جاء في الأحاديث الإسلامية ضرورة استئذان المرء حين دخوله إلى منزل والده أو والدته، و حتى حين الدخول إلى منزل ولده. و جاء في حديث عن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جوابا على استفسار رجل: قال: أستأذن على امي؟ أجاب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: نعم. قال: إنّها ليس لها خادم غيري أ فأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أ تحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل لا، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فاستأذن عليها .
و جاء في حديث آخر عن الامام الباقر عليه السّلام عن جابر بن عبد اللّه الانصاري قال: «خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يريد فاطمة عليها السّلام و أنا معه فلما انتهينا إلى الباب وضع يده فدفعه ثمّ قال: السّلام عليكم، فقالت: فاطمة عليها السّلام: عليك السّلام يا رسول اللّه، قال: أدخل؟ قالت: ادخل يا رسول اللّه، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أدخل و من معي؟ قالت:
يا رسول اللّه ليس عليّ قناع، فقال: يا فاطمة خذي فضل ملحفتك فقنعي به رأسك ففعلت، ثمّ قال: السّلام عليكم، فقالت: و عليك السّلام يا رسول اللّه، قال أدخل قالت: نعم يا رسول اللّه، قال أنا و من معي؟ قالت: و من معك، قال جابر: فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فدخلت ...»
و هذا الحديث يبيّن لنا كيف كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو القدوة للمسلمين كافة، يراعي هذه الأمور بدقة، و حتى جاء في حديث.
عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام قال: «الاستيذان ثلاثة: أوّلهنّ يسمعون، و الثّانية يحذرون، و الثّالثة إن شاؤوا أذنوا و إن شاؤوا لم يفعلوا فيرجع المستأذن».
و يرى بعض المفسّرين ضرورة وجود فواصل زمنية بين كل استئذان و آخر، إذ قد يكون صاحب المنزل لم يتهيأ- بعد- بلباس مناسب، أو يريد تغيير هيئة أو إعداد منزله، فيجب إعطاءه فرصة ليعدّ نفسه و منزله لاستقبال ضيفه، و على الضيف الانصراف دون انزعاج أو توتّر إن لم يسمح له بالدخول.
و منه يظهر أن مصلحة هذا الحكم هو الستر على عورات الناس و التحفظ على كرامة الإيمان فإذا استأنس الداخل عند إرادة الدخول على بيت غير بيته فأخبر باستيناسه صاحب البيت بدخوله ثم دخل فسلم عليه فقد أعانه على ستر عورته، و أعطاه الأمن من نفسه.
و يؤدي الاستمرار على هذه السيرة الجميلة إلى استحكام الأخوة و الألفة و التعاون العام على إظهار الجميل و الستر على القبيح و إليه الإشارة بقوله: «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» أي لعلكم بالاستمرار على هذه السيرة تتذكرون ما يجب عليكم رعايته و إحياؤه من سنة الأخوة و تألف القلوب التي تحتها كل سعادة اجتماعية.
ـــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha