المقالات

القواعد القرآنية  للمجتمع التوحيدي  ح9 //  


الشيخ طالب رحمة الساعدي ||

 

رحلة تدبّرية مع خطاب " ايها الذين امنوا ....." في مضان بعض التفاسير

 

القاعدة الثامنة : الاستئناس

أي كيفية الدخول إلى بيوت الناس، و كيفية الاستئذان بالدخول إليها.

حيث تقول الاية : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى‏ تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى‏ أَهْلِها. و بهذا الترتيب عند ما تعزمون على الدخول لا بدّ، من إخبار أصحاب البيت بذلك و نيل موافقتهم.

و الذي يلفت النظر في هذه الجملة استعمالها «تستأنسوا» و لم تستعمل «تستأذنوا» لأنّ الجملة الثّانية لبيان الاستئذان بالدخول فقط، في الوقت الذي تكون الجملة الأولى مشتقّة من «أنس» أي الاستئذان المرافق للمحبّة و اللطف و المعرفة و الإخلاص، و تبيّن كيف يجب أن يكون الاستئذان برفق و أدب و صداقة، بعيدا عن أي حدّة و سوء خلق. و لو تبحرنا في هذه الجملة على هذا الأساس لوجدنا فيها الكثير من الأدب الذي يدور حول هذا الموضوع، و هو يعني ألا تصرخوا و ألّا تقرعوا الباب بقوة، و ألا تستأذنوا بعبارات حادّة، و ألا تدخلوا حتى يؤذن لكم، فتسلّموا أوّلا سلاما يستبطن مشاعر السّلام و الود و رسالة المحبة و الصداقة.

و ممّا يلفت النظر في هذا الحكم الذي يتصف بأبعاد إنسانية و عاطفية واضحة، مرافقته لجملتين أولاها: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ‏ و ثانيها: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏. و هذا بحدّ ذاته دليل على أن لهذه الأحكام جذورا في أعماق العواطف و العقول الإنسانية، و لو دقق الإنسان النظر فيها لتذكر أن فيها الخير و الصلاح.

و تمّ هذا الحكم بجملة أخرى في الآية التالية: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ‏.

قد يكون المراد من هذه العبارة أنّه ربّما كان في المنزل أحد، و لكن من لديه حقّ إعطاء الإذن بالدخول غير موجود، ففي هذه الحالة لا يحق للمرء الدخول إلى المنزل.

أو قد لا يوجد أحد في المنزل، و لكن صاحب المنزل على مقربة من ذلك المكان، أو في منزل الجيران بحيث لو طرق المرء الباب أو نادى صاحبه فقد يسمعه، ثمّ يحضر ليسمح له بالدخول، و على أي حال، فالمسألة المطروحة أن‏ لا ندخل منزلا دون إذن.

ثمّ تضيف الآية وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى‏ لَكُمْ‏ إشارة إلى أنّه لا لزوم لانزعاج المرء إن لم يؤذن له بالدخول، فلعلّ صاحب المنزل في وضع غير مريح، أو أن منزله لم يهيأ لاستقبال الضيوف! و بما أن بعض الناس قد يدفعهم حبّ الاطلاع و الفضول حين رفضهم استقباله على استراق السمع، أو التجنس من ثقب الباب لكشف خفايا أهل المنزل و ليطلع على أسرارهم، لهذا قالت الآية: وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏.

- وهنا ياتي بحث -  الأمن و الحرية في حريم المنزل‏:

لا ريب في أن لوجود الإنسان بعدين: بعد فردي، و آخر اجتماعي، و لهذا فله نوعان من الحياة: حياة خاصّة، و أخرى عامّة. و لكل واحدة خصائصها و آدابها، حيث يضطر الإنسان في البيئة الاجتماعية إلى تحمل قيود كثيرة من حيث اللباس و الحركة، و مواصلة الإنسان حياته على هذا النسق وحده- خلال الأربع‏ و العشرين ساعة- متعب و يبعث على الضجر، إذ أنّه يرغب في أن يكون حرا خلال فترة من الليل و النهار ليستريح بعيدا عن هذه القيود، مع أسرته و بين أولاده، لهذا يلجأ إلى منزله الخاص به، و ينعزل بذلك عن المجتمع بشكل مؤقت، ليتخلص من قيوده، فيجب أن يكون محيط المنزل آمنا إلى حدّ كاف.

و أمّا إذا أراد كلّ عابر الدخول إلى منازل الآخرين، فلا تبقى حرمة لمنازل الناس، و يسلب منها أمنها و حريتها، و بهذا تتحول إلى بيئة عامّة كالسوق و الشارع. و لهذا السبب كانت بين الناس- على مرّ العصور- أعراف خاصّة في هذا المجال. حتى أن جميع قوانين العالم تمنع الدخول إلى منازل الآخرين دون استئذان و تعاقب عليه، و حتى في حالات الضرورة القصوى و لغرض حفظ الأمن و غايات أخرى أجيز عدد قليل على وفق القانون بالدخول إليها.

و نصّت الأحكام الإسلامية على تعاليم و آداب خاصّة في هذا المجال، لا يشاهد نظيرها إلّا نادرا.

حيث نقرأ  في حديث‏ أن الصحابي الجليل أبا سعيد الخدري استأذن على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو مستقبل الباب فقال عليه الصلاة و السّلام: «لا تستأذن و أنت مستقبل الباب».

و جاء في حديث آخر أن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب.

من تلقاء وجهه و لكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول: السّلام عليكم، و ذلك لأنّ الدور لم يكن عليها حينئذ ستور.

و جاء في الأحاديث الإسلامية ضرورة استئذان المرء حين دخوله إلى منزل والده أو والدته، و حتى حين الدخول إلى منزل ولده.  و جاء في حديث عن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم‏ جوابا على استفسار رجل: قال: أستأذن‏ على امي؟ أجاب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: نعم. قال: إنّها ليس لها خادم غيري أ فأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أ تحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل لا، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فاستأذن عليها .

و جاء في حديث آخر عن الامام الباقر عليه السّلام عن جابر بن عبد اللّه الانصاري قال: «خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يريد فاطمة عليها السّلام و أنا معه فلما انتهينا إلى الباب وضع يده فدفعه ثمّ قال: السّلام عليكم، فقالت: فاطمة عليها السّلام: عليك السّلام يا رسول اللّه، قال: أدخل؟ قالت: ادخل يا رسول اللّه، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أدخل و من معي؟ قالت:

يا رسول اللّه ليس عليّ قناع، فقال: يا فاطمة خذي فضل ملحفتك فقنعي به رأسك ففعلت، ثمّ قال: السّلام عليكم، فقالت: و عليك السّلام يا رسول اللّه، قال أدخل قالت: نعم يا رسول اللّه، قال أنا و من معي؟ قالت: و من معك، قال جابر: فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فدخلت ...»

و هذا الحديث يبيّن لنا كيف كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو القدوة للمسلمين كافة، يراعي هذه الأمور بدقة، و حتى جاء في حديث.

عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام قال: «الاستيذان ثلاثة: أوّلهنّ يسمعون، و الثّانية يحذرون، و الثّالثة إن شاؤوا أذنوا و إن شاؤوا لم يفعلوا فيرجع المستأذن».

و يرى بعض المفسّرين ضرورة وجود فواصل زمنية بين كل استئذان و آخر، إذ قد يكون صاحب المنزل لم يتهيأ- بعد- بلباس مناسب، أو يريد تغيير هيئة أو إعداد منزله، فيجب إعطاءه فرصة ليعدّ نفسه و منزله لاستقبال ضيفه، و على الضيف الانصراف دون انزعاج أو توتّر إن لم يسمح له بالدخول.

و منه يظهر أن مصلحة هذا الحكم هو الستر على عورات الناس و التحفظ على كرامة الإيمان فإذا استأنس الداخل عند إرادة الدخول على بيت غير بيته فأخبر باستيناسه صاحب البيت بدخوله ثم دخل فسلم عليه فقد أعانه على ستر عورته، و أعطاه الأمن من نفسه.

و يؤدي الاستمرار على هذه السيرة الجميلة إلى استحكام الأخوة و الألفة و التعاون العام على إظهار الجميل و الستر على القبيح و إليه الإشارة بقوله: «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏» أي لعلكم بالاستمرار على هذه السيرة تتذكرون ما يجب عليكم رعايته و إحياؤه من سنة الأخوة و تألف القلوب التي تحتها كل سعادة اجتماعية.

 

ـــــــــــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك