الشيخ طالب رحمة الساعدي ||
رحلة تدبّرية مع خطاب " ايها الذين امنوا ....." في مضان بعض التفاسير
القاعدة الرابعة : القول السديد
الحياة اليومية لكل فرد من أفراد المجتمع تقوم على أسس ضرورية للتعامل، فتارة يتعامل الفرد مع نفسه، وأخرى يتعامل مع أشخاص آخرين- مسلم أو غيره- ومن تلك الأسس ما ذكره الحق تعالى في كتابه المجيد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) فهذه الآية تبين أساسين مهمين في تعامل الفرد مع نفسه ومع الآخرين.
فالأول منهما- التعامل مع النفس- ينبغي أن يقوم على أساس التقوى المأخوذة من الوقاية أي يقي نفسه من المخاطر ويحافظ عليها من المصاعب والآلام، وبعبارة أخرى أن كل فرد من بنى البشر يسعى ويبذل جهده وطاقته من أجل إسعاد نفسه- السعادة المادية والمعنوية- وهو يبحث عن الأكل الجيد والمكان المناسب له... وهكذا للحفاظ على نفسه من الجوع مثلا أو الفقر أو التشرد، وأما الجانب المعنوي فيشير الحق تعالى إلى "تقوى الله تعالى" التي يعبر في موضع آخر بأنها خير لباس لتحصينه من المخاطر الحقيقية مما يوجب آليم العذاب الإلهي، وهذه التقوى عملية تطبيقية وليست نظرية، أي لا يكفي فيها العلم والمعرفة والنظر بل تتحقق بالتطبيق والعمل على أرض الخارج.
وأما التعامل الثاني- مع الآخرين سواء المؤمن أو غيره- فهو أساس "القول السديد" فـ "السديد" مأخوذة من "السد" أي المحكم أي لا يترك مجال للنفوذ عبره، أي كلام فيه من الاستدلال والبرهان المطلوب في التعامل مع الآخرين استخدام، الكلام والقول المحكم الذي ليس فيه شائبة من الباطل مطلقا- الكذب والبهتان…- ففي مقام الاستدلال يستخدم القول السديد أو المحكم لإثبات الحجة على الخصم وعدم ترك مجال له لإيراد كلام باطل لا أكثر، وهذا ما يتطلب البحث والتعلم والتدريب على الأساليب المطلوبة في طرح القول السديد حتى يكون أسلوبا ناجحا في الدعوة إلى الحق تعالى وتعاليمه الحقة، فشبابنا اليوم يحتاجون إلى القول السديد من الأساتيذ والآباء والدعاة حتى يتعلموا القول المحكم في خطاباتهم مع غيرهم.
وفي مقام الدعوة الى الاسلام والتعاليم الالهية يكون مبدأ " القول الحسن" لقوله تعالى " وقولوا للناس حُسنا" فالمعاملة الطيبة والقول الحسن ضروري في التعامل مع جميع الناس .
القاعدة الخامسة : التبيين والتثبت
إنّه لا يمكن إنكار أنّ مسألة الاعتماد على الأخبار الموثقة هي أساس التاريخ و الحياة البشرية. بحيث لو حذفنا مسألة حجيّة خبر العادل أو الموثّق من المجتمعات الإنسانية لبطل كثير من التراث العلمي و المعارف المتعلّقة بالمجتمعات البشرية القديمة و حتى كثير من المسائل المعاصرة التي نعمل على ضوئها اليوم ...
و لا يرجع الإنسان إلى الوراء فحسب، بل تتوقف عجلة الحياة، لذلك فإنّ العقلاء جميعا يرون حجّيته و الشارع المقدّس أمضاه أيضا «قولا و عملا».
و بمقدار ما يعطي خبر الواحد «الثقة» الحياة نظامها فإنّ الاعتماد على الأخبار غير الموثّقة خطير للغاية، و مدعاة إلى اضطراب نظام المجتمع، و يجر الوبال و المصائب المتعدّدة، و يهدّد الحيثيات و حقوق الأشخاص بالخطر و يسوق الإنسان إلى الانحراف و الضلال و كما عبّر القرآن الكريم تعبيرا طريفا في الآية محل البحث: فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ.
و هنا لطيفة تسترعي الانتباه أيضا، و هي أنّ صياغة الأخبار الكاذبة و التعويل على الأخبار غير الموثّقة من الأساليب القديمة التي تتّبعها النظم الاستعمارية و الديكتاتورية لتخلق جوّا كاذبا ينخدع به الجهلة من الناس و المغفّلون فتنهب أموالهم و أرصدتهم بهذه الأساليب و ما شاكلها ...
فلو عمل المسلمون بهذا الأمر الإلهي الوارد في هذه الآية على نحو الدقّة و لم يأخذوا بأخبار الفاسقين دون تبيّن لكانوا مصونين من هذه البلايا الخطيرة! و الجدير بالذكر أنّ المسألة المهمّة هنا هي الوثوق و الاعتماد على الخبر ذاته، غاية ما في الأمر قد يحصل هذا الوثوق من جهة الاعتماد على الشخص المخبر تارة، و تارة من القرائن الأخر الخارجية ... و لذلك فإنّنا قد نطمئن إلى «الخبر» أحيانا و إن كان «المخبر» فاسقا ...
فعلى هذا الأساس، فإنّ هذا الوثوق أو الاعتماد كيف ما حصل، سواء عن طريق العدالة و التقوى و صدق القائل أم عن طريق القرائن الخارجية، فهو معتبر عندنا، و سيرة العقلاء التي أمضاها الشارع الإسلامي مبنية على هذا الأساس ...
و لذا فإنّنا نرى في الفقه الإسلامي كثيرا من الأخبار ضعيفة السند لكن لأنّها جرى عليها «عمل المشهور» و وقف على صحة الخبر من خلال قرائن خاصة، فلذلك أصبحت هذه الأخبار (الضعيفة السند) صالحة للعمل و جرت فتاوى الفقهاء على وفقها.
و على العكس من ذلك قد تقع أخبار عندنا قائلها معتبر و لكنّ القرائن الخارجية لا تساعد على قبوله، فلا سبيل لنا إلّا الاعراض عنه و إن كان المخبر عادلا و «معتبرا» ...
فبناء على هذا- إنّ المعيار هو الاعتماد على الخبر نفسه- في كلّ مكان- و إن كان الغالب كون الوسيلة هي عدالة الراوي و صدقه- لهذا الاعتماد- إلّا أنّ ذلك ليس قانونا كليّا. (فلاحظوا بدقّة).
ـــــــــــ
https://telegram.me/buratha