طالب رحمة الساعدي ||
قال ديورانت في قصته :
" والحضارة مشروطة بطائفة من عوامل هي التي تستحث خطاها او تعوق مسراها،
أولها : العوامل الجيولوجية ، ذلك ان الحضارة مرحلة تتوسط عصرين من جليد ، فتيار الجليد قد يعاود الارض في وقت فيغمرها من جديد ، بحيث يطمس منشأت الانسان بركام من ثلوج واحجار، ويحصر الحياة في نطاق ضيق من سطح هذه الارض ، وشيطان الزلازل الذي نبني حواضرنا في غفواته، ربما تحرك حركة خفيفة بكتفيه فابتلعنا في جوفه غير آبه . – هذا العامل ناظر الى الجنبة الشكلية والعمرانية في الحضارة –
وثانيها: العوامل الجغرافية ، فحرارة الاقطار الاستوائية وما يجتاح تلك الاقطار من طفيليات لا تقع تحت الحصر ، ولا تهيئ للمدينة أسبابها ، فما يسود تلك الاقطار من خمول وامراض وما تُعرف به من نضوج مبكر وانحلال مبكر ، من شأنه ان يصرف الجهود عن كماليات الحياة التي هي قوام المدنية ، ويستنفدها جميعاً في اشباع الجوع وعملية التناسل بحيث لا تذر للانسان شيئاً من الجهد ينفقه في ميدان الفنون وجمال التفكير ........
-ثالثها – والعوامل الاقتصادية اهم من ذلك ، فقد يكون لشعب مؤسسات اجتماعية منظمة ، وتشريع خلقي رفيع ، بل قد تزدهر فيه صغريات الفنون ، كما هي الحال مع الهنود الامريكيين ، ومع ذلك فانه ان ظل في مرحلة الصيد البدائية واعتمد في وجوده على ما عسى ان يصادفه من قنائص ، فانه يستحيل ان يتحول من الهمجية الى المدنية تحولاً تاماً، قد تكون قبيلة البدو على درجة نادرة من الفتوة والذكاء وقد تبدى من الوان الخُلق أسماها كالشجاعة والكرم والشمم، لكن ذكاءها بغير الحد الادنى من الثقافة الذي لابد منه ، وبغير اطّراد موارد القوت ، ستنفقه في مخاطر الصيد ومقتضيات التجار ، بحث لا يبقى لها منه شيء لوَشى المدنية وهدّابها ولطائفها وملحقاتها وفنونها وترفها ، واول صورة تبدت فيها الثقافة هي الزراعة، اذ الانسان لا يجد لتمدنه فراغاً ومبرراً الا اذا استقر في مكان يفلح تربته ويخزن فيه الزاد ليوم قد لا يجد فيه موردا لطعامه .......
إن الثقافة لترتبط بالزراعة كما ترتبط المدنية بالمدينة ، ان المدنية في وجه من وجوهها هي رقة المعاملة ، ورقة المعاملة هي ذلك الضرب من السلوك المهذب الذي هو في رأي اهل المدن – وهم الذين صاغوا حكمة المدنية – من خصائص المدينة وحدها ، ذلك لانه تتجمع في المدينة – حقا او باطلا – ما ينتجه الريف من ثراء ومن نوابغ العقول ، وكذلك يعمل الاختراع وتعمل الصناعة على مضعفة وسائل الراحة والترف والفراغ ، وفي المدينة يتلاقى التجار حيث يتبادلون السلع والافكار ، وها هنا حيث تتلاقى طرق التجارة فتتلاقح العقول ، يُرهف الذكاء وتُستثار فيه قوته على الخَلق والابداع ، وكذلك في المدينة يُستغنى عن فئة من الناس فلا يُطلب اليهم صناعة الاشياء المادية ، فتراهم يتوفرون على انتاج العلم والفلسفة والادب والفن ، نعم ان المدينة تبدأ في كوخ الفلاح ، لكنها لا تزدهر الا في المدن . ......
وما هذه العوامل المادية والبيولوجية إلا شروط لازمة لنشأة المدنية . لكن تلك العوامل نفسها لا تكون مدنية و لاتنشئها من عدم ، اذ لابد ان يضاف اليها العوامل النفسية الدقيقة ، فلابد ان يسود الناس نظام سياسي مهما يبلغ ذلك النظام من الضعف حدا يدنو به من الفوضى .......
ولو انعدمت هذه العوامل – بل ربما لو انعدم واحد منها – لجاز للمدنية ان يتقوض أساسها .فانقلاب جيولوجي خطير ، او تغيرٌمناخي شدي او وباء يفلت من الناس زمامه كالوباء الذي قضى على نصف سكان الامبراطورية الرومانية في عهد " الاناطنة" والموت الاسود الذي جاء عاملا على زوال العهد الاقطاعي او زوال الخصوبة من الارض او فساد الزراعة بسبب طغيان الحواضر على الريف، بحيث ينتهي الامر الى اعتماد الناس في اقواتهم على ما يرد اليهم متقطعا من بلاد اخرى ، او استنفاد الموارد الطبيعية في الوقود او المواد الخامة ، او تغيّر في طريق التجارة تغيراً يُبعد امة من الامم عن الطريق الرئيسية لتجارة العالم او انحلال عقلي او خُلقي ينشأ عن تهدم القواعد التقليدية التي كان النظام الاجتماعي يقوم على اساسها ثم العجز عن احلال غيرها مكانها ..
هذه هي بعض الوسائل التي قد تؤدي الى فناء المدنية ، إذ المدنية ليست شيئاً مجبولا في فطرة الانسان، كلا ولا هي شيء يستعصى على الفناء ، انما هي شيء لا بد ان يكتسبه كل جل من الاجيال اكتساباً جديداً ، فاذا ما حدث اضطراب خطيؤ في عواملها الاقتصادية او في طرائق انتقالها من جيل الى جيل فقد يكون عاملا على فنائها ."
ـــــــــــــ
https://telegram.me/buratha