د.أمل الأسدي ||
في أذهاننا صورةٌ أثيرة وآسرة عن منهج اتبعه رسول الله الأعظم(صلی الله عليه وآله) في معالجة الحالة النفسية والاجتماعية المُستجَدَّة بعد التغيير الذي أحدثه الإسلام، تمثّلت هذه الصورة، وتجسّد هذا المنهج في( المؤاخاة) فالنفس التي تربت علی العصبية القبلية، وعلی المصالح القبلية، والإغارة والوأد، والطبقية المقيتة، لايمكن لأي تنظير أو أي خطاب أن يربيها ويروضها، ويغيّر طباعها وعاداتها، لايمكن ذلك إلا بالتطبيق العملي، وكذلك لايمكن تفعيل الفكر الإنساني الإسلامي الجديد إلا بابتكار وسائل عملية، تنقله من حيز الشفاه الی حيز الواقع المعاش، فلا فائدة متحققة من ذكر ( القيم الأخلاقية، العدل،المساواة،الإيثار، الكرم، التحضر، الأُخوة..الخ) وتكرارها من دون تطبيقها وجعلها أسلوب حياة؟! من هنا التفت الرسول الأعظم، إمام الإنسانية، إلی قضية تربية النفس المسلمة،وتحريرها من العبودية، فاتخذ (المؤاخاة) بين المهاجرين والأنصار وسيلةً تربوية ذات بعد عقدي إيماني عميق، وسيلةً لبناء أمة الإنسان، أمةٍ بلا عقدٍ صحراوية، بلا سلوك متعال، أمةٍ تليق بما سيُطلق عليها لاحقا" أمة محمد" فآخی بين المسلمين وذوّب الفجوات، وبدد غربتهم، ورمم دواخلهم التي شوهت الأعرابيةُ فطرتها من جهة، وأرهقها التهجير والملاحقة والظلم من جهة أخری!
هكذا نسرح في عمق التاريخ لنتخيل مؤاخاة الرسول لعلي بن أبي طالب، ومؤاخاته بين أبي ذر الغفاري وسلمان المحمدي، ونتمنی أن نعيش تلك اللحظات المنزوعة الغل والجاهلية، تلك اللحظات التي تجسد قوله تعالی:(( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ...))
وتصور قول رسول الله(صلی الله عليه وآله):(إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ودينكم واحد، ونبيكم واحد، ولا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى))
أو قوله(صلی الله عليه وآله): (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعی له سائر الجسد بالسهر والحمى)
هكذا نعود ...وكأننا نقف بين يدي الرسول ونسأله : كيف نزع الغل بمحبته؟ وكيف طمر الجاهلية بحكمته؟ وكيف أنسن الحياة بعليّه؟ كيف حوّلا منهج (هاشم بن عبد مناف ، وعبد المطلب وأبي طالب) إلی قانون عملي؟
نظل نسأل ونستفهم حتی تنتقل بنا كاميرا الوعي الی ساحة الزيارة الأربعينية، فنری المؤاخاة متجسدةً، ونری وجوه المؤمنين تركض ركضا نحوها، ففي عراق الحسين وفي أيام الأربعينية يتجلی مصداق المؤاخاة، فيندهش الرائي ويقف عاجزا، بينما دموعه متحررة راكضة، فهنا الكل يبحث عن (سلمان) كي يؤاخيه، وكأنها أيام حصاد، ومواسم اجتناء، ولابد أن يكون لكل فرد منّا نصيب من هذه النعم، فالرجل الكبير يريد أن يؤاخي ويكرّم ويجني، والجدة المبجلة، تعصبت بعصابتها، وتحزمت وتريد أن تحصد وتجني كغيرها، والشاب بكامل عنفوانه يخرج باحثا عن مؤاخاةٍ يجنيها، وهذه المرأة العراقية، بوجهها القمري تريد أن تسجل موقفها، وتحصد الخير، وتقدم كل ما يمكن تقديمه لأخواتها وأبنائها، حتی الأطفال قرروا الاشتراك في المؤاخاة، فيبكي الطفل حتی يُنصب له موكب خاص،أو يحمل سلة الماء البارد ليوزعها،أو سلة الفواكه أو الحلوی!!
تُری من أمر هولاء الناس؟ ومن وجههم؟ ومن منحهم هذا الدفق من المحبة الخالصة؟ ومن زرع فيهم هذا الإيثار؟ فإن الله تعالی قال: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...)) كيف قدّم هولاء العراقيون أموالهم وبنينهم في سبيل الحسين؟ وما هذه الروح الكريمة المؤدبة؟ ماذا أرضعتهم أمهاتهم؟ أي حليب نقيٍّ هذا؟
أجل يارسول الله، نحن هنا نجسد المؤاخاة، فأنت أمرتَ المسلمين حينها فامتثلوا، ونحن خرجنا بفطرتنا وحبنا وولائنا!! فماذا كُنّا سنفعل لو رأيناك آمرا؟
نحن نحفظ قولك جيدا:(حسينٌ مني وأنا من حسين، أحبَّ اللهُ من أحبَّ حسينا...)) فنبحث عن مؤاخاةٍ علی حبِّ الحسين، أما القادم للزيارة فيحث الخطی مسرعا إلی كربلاء، قد براه الشوق، يحلم بتلك اللحظة، لحظة الوصول إلی عرش المحبة المحمدية، حيث الأرواح الطاهرة التي فدت المسلمين وأبقتهم علی علی قيد الإيمان، ورسمت للأجيال طريق الحق، ذلك الطريق الذي صار منجما للوعي، وينبوعا باردا لايجف ، وطاقةً لاتخبو، وشعاع ضوءٍ لاينتهي!!
فقر عينا يامولاي،يارسول الله،فكل بيوتنا تنتظر سلمانك، سلمان المحمدي، وتنتظر كلّ الوافدين من شتی بقاع الأرض، وبإذنه تعالی، لن تقول لنا كما قال غيرك: (إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُون...) فنحن الضيوف، وضيوفكم أصحاب الدار!
https://telegram.me/buratha