عادل الجبوري ||
ما حصل الأسبوع الماضي في المنطقة الخضراء وسواها لا يخرج عن سياق كل الإشكاليات التي رافقت وتبعت الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
أشارت الأحداث والوقائع الدراماتيكية السريعة التي شهدتها العاصمة العراقية بغداد ومعها مدن أخرى، منذ صباح التاسع والعشرين من شهر آب/أغسطس الماضي وحتى ظهر الثلاثين منه إلى جملة حقائق لا يمكن التغاضي عنها والقفز عليها عند البحث عن مخارج وحلول واقعية وعملية للأزمة السياسية الحادة التي باتت في نظر كثيرين تتحرك داخل نفق ضيق ومظلم يصعب العثور على بصيص أمل حقيقي فيه.
- الحقيقة الأولى هي أن أزمة الثقة بين الفرقاء السياسيين العراقيين، كانت وما زالت العقبة الكأداء أمام بناء عقد سياسي مجتمعي قوي ومتماسك ورصين تغيب أو تنحسر عنه المشكلات والإشكاليات، وتتسع فيه مساحات وآفاق التطور والازدهار والتعايش والبناء. وبدلاً من أن تجد أزمة الثقة هذه طريقها إلى الزوال بمرور الزمن ونضج التجربة الديمقراطية حديثة العهد في بلد مثل العراق، لم يعرف طوال تاريخه الحديث الممتد إلى ثمانية عقود سوى الانقلابات والمؤامرات والحروب والصراعات، فإنها راحت تتمدد وتطغى وتعرقل وتعوّق مسارات الحراك الإيجابي المطلوب في جميع الجوانب والمجالات الحياتية. ومجمل ما نشهده اليوم في الشارع وكواليس السياسة هو مصداق ودليل واضح على ذلك.
- الحقيقة الثانية وهي بشكل أو بآخر تعد نتاجاً للحقيقة الأولى وتتمثل في ترسّخ عقلية المحاصصة والمغانم والتغالب بين الفرقاء، لتكون مخرجاتها ومعطياتها ونتائجها الضعف المتنامي لمنظومات الدولة لمصلحة المنظومات الأخرى السياسية والعسكرية الحزبية والعشائرية والتفاوت الطبقي والاستئثار والاحتكار، وبالتالي شيوع الظلم والإهمال وحرمان فئات وشرائح اجتماعية واسعة وعريضة.
*الحقيقة الثالثة وتتمثل في وجود الأطراف والأجندات والمشاريع والعوامل الخارجية المؤثرة والمتحركة والفاعلة والمتقاطعة فيما بينها في المشهد العراقي. وقد كان لطريقة إسقاط النظام السابق في ربيع عام 2003 وخضوع البلاد للاحتلال الأميركي أثر كبير في خلق بيئة سياسية وأمنية واجتماعية حافلة بكل مظاهر وظواهر الفوضى والتخبط والاضطراب.
هذه الحقائق وغيرها كانت حاضرة وبقوة بأشكال وصور مختلفة في مجريات أحداث يومي 29 و30 آب/أغسطس الماضي، بحيث يمكن النظر إليها والتعاطي معها على أنها نتائج ومخرجات من جانب، وأسباب ومقدمات لنتائج ومخرجات محتملة ومتوقعة من جانب آخر.
وفي حال اعتبرت نتائج ومخرجات لما سبقها، فحينذاك من الطبيعي جداً أن يكون التصادم المسلح أيا ًكانت أطرافه ومحركاته ومحفزاته، الذي كان ميدانه الرئيس المنطقة الخضراء بتحصيناتها الأمنية المشددة وطابعها السياسي الخاص، من حيث وجود المؤسسات الحكومية العليا فيها والمفاصل الحساسة وعدد غير قليل من البعثات والهيئات الدبلوماسية، من الطبيعي جداً، أن يكون ذلك التصادم المسلح خياراً أو ورقة من أوراق الفعل السياسي، بعدما بدت الخيارات والأوراق الأخرى عقيمة، وغير مجدية بالنسبة إلى بعض الفرقاء في تحقيق رؤاهم وتصوراتهم وأهدافهم.
وحتى لا نبتعد كثيراً، فإن ما حصل الأسبوع الماضي في المنطقة الخضراء وسواها لا يخرج عن سياق كل الإشكاليات التي رافقت وتبعت الانتخابات البرلمانية الأخيرة في العاشر من شهر تشرين الأول/أكتوبر 2021، أي قبل نحو عام. فالانتخابات بنتائجها الجدلية المشكوك فيها من جهة، وغير الحاسمة من جهة أخرى ولّدت احتقانات حادة كبيرة، لاسيما بين قوى وتيارات المكون الشيعي، وهي احتقانات لم تكن وليدة اللحظة وليست عابرة ولا سطحية، إنما قديمة وعميقة وكبيرة، وأكد ذلك فشل وإخفاق كل الجهود والمساعي الداخلية والخارجية لاحتوائها وتطويقها، وبدلاً من أن يكون هناك نوع وقدر من التنازلات المتبادلة، كان هناك قدر كبير من التشدد والتصلب الذي أفضى إلى انسداد سياسي خطر لينتهي إلى تصادم وصراع مسلح، بدا للجميع أنه يمكن أن يتسع ويكبر ليتحول إلى اقتتال أهلي واسع النطاق.
ومثلما تسبب قرار زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر باعتزال العمل السياسي نهائياً بعيد الانتقادات الضمنية الموجهة إليه من المرجع الديني آية الله العظمى السيد كاظم الحائري بتفجير الأوضاع، فإن توجيهاته الصارمة فيما بعد لأتباعه بوجوب إنهاء التظاهرات والاعتصامات، والانسحاب من البرلمان وعموم المنطقة الخضراء في غضون ستين دقيقة فقط، بسبب مظاهر العنف واستخدام السلام وخروج التظاهرات عن سلميتها، ساهمت في نزع فتيل الأزمة وتطويق الفتنة التي كادت تأتي على الأخضر واليابس معاً.
ولتوخي الدقة، فإن من المهم التنويه بأن اعتصام اتباع التيار الصدري أمام مجلس القضاء الأعلى قبل نحو أسبوعين والتهديد باقتحامه مثّلا مرحلة خطرة ومقلقة جداً من التصعيد، استشعرتها الأطراف المختلفة لتبادر إلى التعبير عن ردود أفعال سريعة وقوية وواضحة، بعضها كان معلناً، وبعضها الآخر لم يخرج من حدود الكواليس والأروقة والقنوات السرية، ربما تكون قد صدمت وفاجأت زعيم التيار وأربكت حساباته لتدفعه إلى الإسراع في الإيعاز إلى أتباعه بالانسحاب من مجلس القضاء والاكتفاء بمواصلة الاعتصام أمام البرلمان.
يخطئ من يتصور أن أزمة شائكة ومعقدة، خلفياتها ومسبباتها وإسقاطاتها كثيرة وكبيرة، يمكن أن تطوي صفحتها قرارات وتوجيهات صارمة وانفعالية لزعيم التيار في لحظة مفصلية حرجة وخطرة، لسبب بسيط يتمثّل في أن ظروف وعوامل وبيئة الأزمة لم تتبدل، ولا يبدو أنها ستتبدل خلال الأمد الزمني المنظور.
فمن غير الواقعي ولا المنطقي تصور اعتزال الصدر العمل السياسي بصورة نهائية، ولا تصور أن التيار الصدري يمكن أن يختفي ويتلاشى، أو ينزوي بعيداً من مسرح الأحداث، وهو الذي يمتلك قواعد شعبية لا يستهان بها، تمتاز بالطاعة والولاء غير التقليدي.
وفي الوقت نفسه، فإن من غير المنطقي تصوّر حل وحظر الفصائل المسلحة، سواء المنضوية منها تحت مظلة الحشد الشعبي، أو تلك التي خارجه أو تذويبها وصهرها في بوتقة المؤسسات الأمنية الأخرى كوزارتي الدفاع والداخلية. ليس هذا فحسب، بل إن المراهنة على تفكك الإطار التنسيقي وتشظيه لم تعد مجدية، حتى وإن تباينت وتقاطعت بعض مواقف وتوجهات القوى المكونة له.
السيد الصدر عاود كتابة التغريدات التي من خلالها يطرح ما يراه من أفكار ورؤى وتصورات وانتقادات وملاحظات، وكذلك فعل وزيره صالح محمد العراقي الذي أعلن بعد بيان اعتزال الصدر إغلاق حسابه على منصة التواصل الاجتماعي (تويتر)، بيد أنه سرعان ما استأنف إطلاق التغريدات ذات الطابع السياسي الحاد والمباشر.
وبموازاة ذلك فإن مظاهر العنف المسلح لم تختفِ بالكامل، بل استمرت بشكل أو بآخر، بصورة اغتيالات واستهدافات لمكاتب ومقارّ حزبية، وتصادمات بين مجاميع مسلحة تنتمي إلى جهات سياسية متخاصمة، كما حصل في محافظة البصرة، ما دفع الاتحاد الآسيوي لكرة القدم إلى اتخاذ قرار بنقل تصفيات بطولة آسيا للشباب التي كان مقرراً إقامتها في الثامن من شهر أيلول/سبتمبر الجاري في البصرة إلى دولة الكويت.
إلى جانب ذلك، فإن لغة التصعيد والتحشيد والتسقيط الإعلامي المتبادل، وإن اختفت أو انحسرت رسمياً، بعدما دعت إلى ذلك مختلف الأطراف إلا أنها بقيت على حالها تقريباً في عدد من منصات التواصل الاجتماعي والحسابات والصفحات الوهمية والمزيفة والمجهولة الانتماء.
وفي خضم وذروة الأزمة، لوّح رئيس مجلس الوزراء المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي بالتنحي والاستقالة فيما لو استمر التناحر بين الفرقاء السياسيين، إذ قال في كلمة وجهها إلى الشعب العراقي بعد أقل من يوم على التصادم المسلح، "أحذر من هنا إذا أرادوا الاستـمرار في إثارة الفوضى والصـراع والخلاف والتناحر وعدم الاستماع لصوت العقل، فسأقوم بخطوتي الأخلاقية والوطنية بإعلان خلو المنصب في الوقت المناسب، بحسب المادة 81 من الدستور، وتحميلهم المسؤولية أمام العراقيين، وأمام التأريخ".
وتنص المادة 81 من الدستور العراقي على التالي.
أولاً: "يقوم رئيس الجمهورية مقام رئيس مجلس الوزراء عند خلو المنصب لأي سبب كان.
ثانياً: عند تحقق الحالة المنصوص عليها في البند الأول من هذه المادة يقوم رئيس الجمهورية بتكليف مرشح آخر تأليف الوزارة في مدة لا تزيد على خمسة عشر يوماً ووفقاً لأحكام المادة 76 من الدستور".
وسواء أكان الكاظمي جاداً في تلويحه بترك المنصب أم أراد منه الضغط على الفرقاء من أجل حلحلة الأمور، فإنه في كل الأحوال يعني مزيداً من الإرباك للرافضين والمؤيدين والداعمين له على السواء، مع أهمية الإشارة هنا إلى أن حجم الضغوط على الكاظمي باتت كبيرة جداً، ونطاق المشكلات والأزمات اتسع كثيراً إلى الحد الذي أخذ معه الأخير يشعر بأنه عاجز عن التحكم بمسارات الأمور، ولو بقدر معين، ولم تعد مبادراته واجتماعاته بالقوى السياسية المتكررة تجدي نفعاً.
ولعل مختلف القراءات الاستشرافية لا تنطوي على مؤشرات إيجابية أو ملامح للحل والحلحلة، وأن أي خطوات يقدم عليها الإطار التنسيقي، حتى لو كانت بالتنسيق مع شركاء وحلفاء الصدر السابقين من الكرد والسنة، لن يكتب لها النجاح ما لم تحظَ، ولو بالحد الأدنى، بالقبول من الصدر، وهي قد تعيد تحريك وتدوير عجلة الشارع من جديد، وكما قلنا في مقال سابق "ليس بإمكان أي طرف السير والتقدم في خياراته بعيداً من الطرف الآخر، وإن الإصرار والتشبث بالمواقف والمطالب والتوسل بورقة الشارع، يمكنها أن تقطع الطريق على الخصم، لكنها لا تمكّن صاحبها من تحقيق ما يريده ويرغب فيه ويخطّط له"، والشيء نفسه بالنسبة إلى من يريد الاحتكام إلى الدستور ويتجاهل حراك الشارع ومفاعيله.
خلاصة القول أن أي خيار لن يكتب له النجاح من دون اقترانه بإعادة بناء الثقة وتجنب السير في مسارات المحاصصات والترضيات والمساومات السابقة، ومن دون ذلك، لا حلّ البرلمان، ولا الانتخابات المبكرة، ولا استقالة رئيس مجلس الوزراء، ولا اعتزال الصدر، يمكن أن تنهي الأزمة وتفتح مغاليقها الموصدة.
ــــــــــــ
https://telegram.me/buratha