الشيخ الدكتور باسم العابدي||
عشرة قرون واربعة مضت حين قال امير المؤمنين عليه السلام عبارته المشهورة (( كلمة حق يراد بها باطل)) فقد بقيت هذه الكلمة مع توالي الازمنة , ولم تهرم هذه الجملة بتناوب القرون ولم تمت بتطاول الدهور , وماشاخت بتبدل الاجيال , وما انحسرت بتغير الاحوال , وحتى بعد استبدال البعير بالطائرة والحمار بالقطار ظلت محافظة على مرجعيتها ولم تكسد او تفقد صلاحيتها في مدن السياسية وازقتها , وفي ساحات الحروب واروقتها عبر التاريخ فبها توزن الافكار وتقاس الاقوال وتبان حقيقة الشعارات واللافتات والادعاءات , وهذا يعني ان كلام الائمة قوانين عامة وقواعد غير مرحلية فهي تتجدد بتجدد الايام وتمشي مع الامم وتتواكب مع الجماعات وتتلاحق مع الاجيال فكل جيل فيه من يتكلم بلسان الحق ولكنه يضمر من ورائه الباطل , ولم يكن زمننا بدعا من الازمنة ولايختلف جيلنا عن الاجيال التي خلت سواء من عاصر منها صاحب القاعدة الذهبية ام ماجرى بعده على الاسلام لاسيما على حملة الرسالة وورثتها والشعارات الجميلة التي رفعت بدعوى الثار لهم ثم انتهت بقتلهم وتشريدهم على يد الامويين والعباسيين والبعثيين.
كانت كلمة امير المؤمنين هذه درسا تاريخيا للباحثين عن الحكمة وهي اشبه ماتكون بعلامات المرور التي تحذر سائقي المركبات من وجود حفريات او طرق متعرجة وراء هذا الجبل فلا ينبهروا بكون الطريق الان سالكا ومنظره الحالي جميلا.
لقد قال امير المؤمنين عليه السلام كلمته العظيمة هذه في احدى معاركه التي فرضها عليه المسلمون خلال العقدين التاليين لوفاة الرسول صلى الله عليه واله , وهنا نذكر نماذج ثلاثة تشكل مثالا ومصداقا لكلمة الامام علي عليه السلام احد هذه المصاديق سابق على الزمن الذي قيلت فيها اما الموردان الاخران فهما من واقعنا المعاصر في مقاربة منهجية لكلمة امير المؤمنين عليه السلام.
الانموذج الاول: لاشك ان امير المؤمنين عليه السلام هو وصي رسول الله وخليفته من بعده بالتنصيب المستند الى النص الشرعي وهذا هو الحق الذي لاشبهة فيه الا ان امير المؤمنين عليه السلام رفض دعوة ابي سفيان لما جاءه يدعوه لاصلاح الامر بالحرب وأخذ البيعة له بعد استيلاء ابي بكر وعمر على الخلافة لان حركة ابي سفيان وان كان ظاهرها الدعوة لاعادة الحق لاهله الا انها كانت تستبطن الفتنة, وبحسب ماورد في المدونات التاريخية فقد ذكروا انه: ((لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول: والله، إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم. يا آل عبد مناف، فيم أبو بكر من أموركم؟! أين المستضعفان؟! أين الأذلان: علي والعباس؟!وقال: أبا حسن، أبسط يدك حتى أبايعك, فَزَجَرَهُ عَلِيٌّ وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ مَا أَرَدْتَ بِهَذَا إِلَّا الْفِتْنَةَ، وَإِنَّكَ وَاللَّهِ طَالَمَا بَغَيْتَ لِلْإِسْلَامِ شَرًّا! لَا حَاجَةَ لَنَا فِي نَصِيحَتِكَ)) ( الطبري: تاريخ الطبري:3: 209, ابن الاثير: الكامل في التاريخ:2: 188).
الانموذج الثاني: استشراء الفساد السياسي والاداري والمالي المعاصر في العراق امر يعلمه الاعمى والبصير ويلمسه الكبير والصغير وقد ارتفعت اصوات الفقهاء ومراجع الدين في التحذير منه والترغيب في محاربته وتحدث عنه العلماء واساتذة الجامعات والخطباء والباحثون والنشطاء في وسائل التواصل الاجتماعي , وحتى عامة الناس اعترضوا وتكلموا وهتفوا ضد الفساد والمفسدين ولكن ظهر من بيننا من اطلق دعوة لتحويل وجهة الزوار وزيارة سيد الشهداء من كربلاء الى المنطقة الخضراء فان هذه كلمة اخرى من كلمات الحق التي يراد بها الباطل .
الانموذج الثالث: حب الوطن واحترامه من الامور المستحسنة وان كان ليس بالمعنى الذي يذهب اليه المنادون بتقديس الوطن الجغرافي على النحو الذي كان يفعله ادولف هتلر ويتبجح به صدام حسين وكلاهما احل الخراب والدمار في بلاده تحت عناوين مزيفة
الا ان مايتفوه به بعض الاشخاص هذه الايام يحمل هذه الصبغة (كلمة حق يراد بها باطل), فتسمع بعضهم يقول: ( من يوالي غير وطنه لادين له) وهذا الخطاب مشوق للعامة وجذاب في ظاهره لفئات من الناس , ولكنه ينطوي على كثير من الباطل وان كان القائل لايقصد الباطل ولايعلم مايستبطنه هذا القول الذي قاله , فربما حمله الحماس لقول ماقاله وعليه فاننا لانقصد في هذه المقاربة تخوين الناس لان كلمة امير المؤمنين عليه السلام ناظرة الى مآل الكلام وليس الى حقيقة الاشخاص ونواياهم.
ــــــــــــ
https://telegram.me/buratha