ا.د. جهاد كاظم العكيلي ||
يعتبر الفلاسفة إن الأخلاق هي أساس العدل والمساواة، وإنها مرتكز اساس لبث الروح الإنسانية بين بني البشر، وعلى ضوء ذلك تتحقق سعادة الفرد وضمان حقوقه في للعيش في لحياة كريمة ..
ووفق تلك المفاهيم كافح الرُسل والأنبياء، وأصحاب الفكر النير لترسيخ القيم الإجتماعية السامية للأخلاق بين الناس لنشر الفضيلة التي هي أسمى غاية إنسانية يسعى لها العقل البشىري، غير أن هذه المفاهيم والرؤى التي تستهدف تخليص الإنسان من الذلتية المفرطة، لا زالت في معرض النقد والتفسيرات، بعد أن إهتزت الثوابت الرئيسية للقيم الأخلاقية والتي تؤكد على إنسانية الإنسان وأهمية وجوده في محيطه الإجتماعي، خصوصا عندما يمر المجتمع بأزمات حادة وتقلبات في نظام تكوينه وإدارته ..
وهذا ما يبدو واضحا في واقعنا الذي يشكل تراجعنا ملحوظا عير حقب زمنية مختلفة بعد أن فشلت المنظومات السياسية بالإهتمام بالإنسان والحفاظ على كرامته حينما يسود الواقع المُعاش الفساد والحرمان والجهل وغياب الرادع الأخلاقي عند الكثير ..
ووفق هذا السياق اصبح التعامل الإجتماعي يشهد إنحطاطا وتدني في الذوق العام وإنعدام الجوانب الإنسانية خصوصا عند الذين يمتلكون مصدر أرزاق الناس او الذين بيدهم قرار التعامل في معاملات البيع والشراء وإدارة شؤون المواطن مستغلين حاجات الناس في الظروف الإقتصادية الصعبة، وفي ظل غياب القانون والتشريع التي من شأنها أن تردع المخالفين والمتجاوزين على حقوق الآخرين، وفي ظل الواقع العراقي أمثلة كثيرة تكتشف لنا عن بواطن الشخصية الحقيقة للإنسان في تعاملاته داخل المجتمع، وتمرده على منظومة القيم التي تربط الإنسان بأخيه الآخر في إطار مجتمع إنساني وليس حيواني ..
وعند الوقوف على حالات كثيرة من الأزمات التي تضرب بالمجتمع ومنها مثلا شح (البنزين) و(الكهرباء) وإرتفاع أسعار السلع والمواد الغذائية التي تمس راحة وإستقرار الإنسان من الناحية النفسية، نجد خلفها غموض كبير، والمثير للجدل أن الكثير من الناس يضعون اللوم فقط علي النظم الحاكمة والتي تتحمل الشق الاكبر في ذلك، لكن عند التدقيق في هذه الأزمات سنجد أن المسؤولية الأخلاقية يجب أن يتصدرها الأنسان المسؤول عن هذا الإنهيار القيمي وذلك بسبب ظهور الذات المفرطة عند من يتعاملون مع حاجات الشعب، مستغلين تلك الحاجة الإنسانية للإنسان، فأخذ الكثير من هؤلاء يتلاعبون بأسعار تلك الحاجات لتحقيق منافع ومكاسب أكبر على حساب طلب الإنسان لها ..
وعند البحث عن تلك الحقيقة نجد أن هناك رأي جمعي لأصحاب المهن الذين لهم دور كبير في السيطرة والإستغلال تحت ذرائع واهية متعلقة بالواقع الإقتصادي، وهذا ما يؤشر لنا أن أخلاق المهنة إنعدم في نفوس هؤلاء، وعلى سبيل المثال نجد أن أسعار جباية أصحاب (المولدات) متباينة بين منطقة وأخرى، لكن هناك إتفاق جمعي بين أصحاب هذه (المولدات) من خلال فرض هيمنة على حاجة المواطن للكهرباء، ذلك أن الكثير منهم يبررون بأنهم بدفعون رسومات غير شرعية وهي التي تقف وراء زيادة هذه الأسعار لكل امبيرية، مع ملاحظة غياب الرقابة، وتورط البعض من أعضائها في ذلك ..
وفي ظل موجة إرتفاع أسعار المواد والسلع الغذائية نجد أن اصحاب الأفران النارية بدأوا بتقليل عدد (الصمونات) إلى خمسة (صمونات) وبسعر (1000) دينار بعد أن كانوا يبيعون عشرة (صمونات) بنفس السعر، ومن المفارقات حين تشتري أرغفة الخبز ستجد أن صاحب الفرن الناري يبيعك أربعة أرغفة بسعر (1000) دينار بعد أن كنت تشتري ستة أرغفة بنفس السعر ..
وذات مرة باع لي صاحب فرن خمسة أرغفة خبز بسعر (1000) دينار بخلاف ما يبيع الآخرون، وحين سألته عن السبب، أجاب باللهجة الدارجة: (عمي آني أتعامل بضميري وبأخلاقي)، ثم راح يؤكد: (لكن هناك ضغوطات خارجية من قبل بعض أصحاب هذه المهن تدفع بإستغلال المواطن .. وهناك مجموعة من الخبازين هددوني لأنني لا أتماشى مع أسعارهم) ..
ومن هذه الحقيقة نستخلص أن الأمور ليس مثلما ينقلها البائع لكي يبرر عن جشعه للحصول على ربح مضاعف، لكن إستغلال البائع للظروف وإنعدام الجانب الأخلاقي هي التي تقف وراء ذلك، مما اصبحت تشكل مصدرا لبؤس المواطن وشقاؤه، وما هؤلاء الذين يستغلون الناس بأبشع الصور ما هم الا الذين ينتقدون الحكومات على الفساد وسوء إدارتها للبلاد، وهؤلاء هم أسوأ بكثير من تصرفات الحكومة لأنهم لا يمتلكون القيم والنيل والأخلاق لإسعاد الناس والتعامل معهم بعدل وإنصاف، وما هم في حقيقة الأمر إلا قوارض تقرض المجمتع ولا يشبعون كونهم تجار أزمات ..
إن مشاكل من هذا النوع تتمحور بالأساس حول أزمة الأخلاق عند الإنسان أولا قبل أن تكون عند الأنظمة، فإن أستقام الإنسان او المسؤول وفق مقياس العدل والإحسان، والتي هي مصدرها العقل والأخلاق، مثلما فعل هذا الخباز نكون قد إمتلكنا الرحمة مثله تجاه الآخرين، عندئذ يستقيم المجتمع وينبثق منه نظام إجتماعي عادل يسعد العباد والبلاد ..
ـــــــــــ
https://telegram.me/buratha