محمد عبد الجبار الشبوط ||
الدولة الحضارية الحديثة ( د ح ح) هي حاصل اشتغال الانسان مع الانسان من جهة، و اشتغال الانسان مع الطبيعة من جهة ثانية في سياق زمني ومكاني معطى. فهي بالنتيجة ناتج عمل الانسان في حراكه التاريخي مع نفسه ومع الطبيعة.
وهذا هو حاصل انتاج "العلاقة المعنوية" التي عدها الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر العنصر الثالث من عناصر المجتمع اضافة الى الانسان والارض، انطلاقا من قوله تعالى:"إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً". والخلافة هي العنوان القراني لهذه العلاقة المعنوية.
وانا حينما اتحدث عن د ح ح في العراق فانا حتما لا اقصد امرين: الامر الاول ان تقوم د ح ح فورا او غدا، لاني اعلم ان اقامة هذه الدولة تستغرق زمنا طويلا. والامر الثاني انني لا ارى ان الطبقة السياسية التي مازالت تتصدر الواجهة منذ عام ٢٠٠٣ قادرة معرفيا وتطبيقيا على اقامة هذه الدولة. ولا علاقة لهذا القول بحقيقة انني عملت لفترة ضمن هذه الطبقة في رئاسة تحرير صحيفة "الصباح" و ادارة شبكة الاعلام العراقي. لان المسالة ليست موقفا شخصيا وانما رؤية نظرية تحليلية لواقع الحال. كما انني استعبد من فكرة د ح ح كل الدعوات الاصلاحية التي تطلقها بعض الاطراف السياسية الان لانها دعوات ترقيعية، وجزئية وتفتقر الى رؤية الصورة الكاملة متمثلة بفكرة الدولة الحضارية الحديثة.
ما اقصده بطرح الدولة الحضارية الحديثة امور منها:
اولا، رسم صورة د ح ح كفكرة واضحة وكاملة امام المتلقي.
ثانيا، بناء وعي سياسي لمسألة الدولة على اساس فكرة د ح ح. والوعي هو نظرة خاصة الى الواقع استنادا الى رؤية نظرية له. وبالتالي فان الوعي يستبطن اجراء مطابقة بين الفكرة والواقع (كما نعمل في المثلثات) لتحديد مدى مخالفة الواقع للفكرة.
ثالثا، واستنادا الى هذه المطابقة تتولد ارادة التغيير لدى الافراد الواعين في المجتمع. اي تغيير المجتمع من اجل الوصول به الى حالة التطابق مع نموذج د ح ح.
رابعا واخيرا، جعل د ح ح هدفا اعلى يسعى اليه المجتمع في حراكه العام ونشاطاته المختلفة.
يقول ابن خلدون في مقدمته:"ان الدولة اذا اختلت وانتقضت فان المصر الذي يكون كرسيا لسلطانها ينتقض عمرانه وربما ينتهي في انتقاضه الى الخراب".
وهذه ما حدث ويحدث في العراق. فقد اختلت الدولة وتفككت، وانتقض عمرانها، وتسيّد الخراب جهاتها المختلفة. والطبقة السياسية الحالية جزء من هذا الاختلال، بل هي احد اسبابه. وكنت قلت في مقالات سابقة كثيرة ان المشكلة في العراق تكمن في الاختلالات الحادة التي حدثت عبر مدى زمني طويل بالمركب الحضاري للمجتمع العراق ومنظومة القيم العليا الحافة بعناصره الخمسة وعلى رأسها الانسان. وحينما انظر الى طروحات الاطراف السياسية المتصارعة والى سلوك المتعصبين من انصارها لا اجد انها معنية بمعالجة هذه الاختلالات، انما على العكس من ذلك تعيش على جملة شعارات وعبارات "لَّا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِى مِن جُوعٍۢ"، كما يقول القران الكريم، ما يعزز الاعتقاد بانها جزء اساسي من هذه الاختلالات الحادة.
كل هذا يدعوني الى الاصرار على طرح د ح ح كفكرة، والافاضة في شرح تفاصيلها، على امل تكون بمثابة حلم يرنو العراقيون الى الوصول اليه في المستقبل، وانا على يقين بان الفكرة اذا تحولت الى حلم وهدف فانها كفيلة بصنع الارادة الكافية لدفع الانسان الحالم والهادف الى التحرك نحوها. واني اجد الان ان اعداد المواطنين الذين يحلمون بهذا النموذج ويتمنون حصوله بازدياد مستمر. وهي زيادة كمية سوف تؤدي الى تحرك نوعي، على الاقل كما تقول الماركسية!
ــــــــ
https://telegram.me/buratha