محمد عبد الجبار الشبوط ||
اعجبتني كثيرا عبارة كتبها الاخ عمار البغدادي في مقاله المنشور في جريدة "العالم" يوم امس الاربعاء قال فيها:
"ان العراق يحتاج الى عقل سياسي اعلى يعمل على بناء الحاضر والمستقبل دون ان يخضع لارادات الجهات السياسية الطائفية في الداخل والخارج".
وهذا تشخيص دقيق جدا لموضع حاجة المشهد السياسي العراقي منذ سقوط النظام الدكتاتوري حتى اليوم، بل منذ سنوات المعارضة قبل ذلك. فالعراق بحاجة الى عقل سياسي ستراتيجي مستقل يفكر بالحاضر وعينه على المستقبل.
لم يكن هذا العقل الستراتيجي موجودا في سنوات المعارضة. وكنتُ من الاشخاص القليلين الذين شخصوا هذه الحالة، وكتبت عنها في صحيفة "البديل الاسلامي" التي كانت تصدر في دمشق وبيروت. كانت قوى المعارضة مختلفة فيما بينها على مسألة القيادة، وليس على مشروع اسقاط النظام. وبعد سقوط النظام بالمعول الاميركي اختلفت ذات القوى على مسألة تقاسم السلطة وليس على مشروع بناء الدولة. وفي الحالتين كان النقص يتمثل في عدم وجود عقل ستراتيجي مستقبلي.
مباشرة بعد سقوط النظام انشغلت واشتغلت القوى السياسية على مسألة الحكومة وتفتق عقلها السياسي الغارق في ملابسات الحاضر الطائفية والعرقية والحزبية عن طروحات ونظريات مختلفة حول الحكومة تمحورت كلها حول مشاركة الجميع بحصة الكيكة الحكومية على اساس المحاصصة دون التفكير والاهتمام بالمسألة المركزية وهي بناء الدولة.
انتج "العقل السياسي" العراقي ثلاثة انماط من التفكير هي: العقل الشيوعي، والعقل القومي بشقيه العروبي والكردي، والعقل الاسلامي، بشقيه السني والشيعي. فاما العقل الشيوعي فقد طرح شعار "وطن حر وشعب سعيد"، فيما طرح العقل القومي العروبي بشقيه الناصري والبعثي ثلاث مفردات مع اختلاف في ترتيبها وهي: الوحدة والحرية والاشتراكية، وطرح العقل الاسلامي شعار الدولة الاسلامية. (ويمثل العقل السياس القومي الكردي حالة خاصة). سرعان ما انخرط الشيوعيون والبعثيون في صراع دموي ابان الجمهورية الاولى اسفر عن انتصار البعثي على الشيوعي واقامة الجمهورية الثانية التي سرعان ما انزلقت في هاوية الدكتاتورية وعبادة الشخصية بعد تسلط قيادتها المتخلفة، اما العقل الاسلامي فقد جمد شعار الدولة الاسلامية منذ عام ١٩٨٠ ولم يطرح مشروعا بديلا لبناء الدولة، ثم انغمس في دوامة السلطة على اساس المحاصصة في الجمهورية الثالثة. النتيجة المتحصلة ان هذه الانماط الثلاثة من التفكير السياسي عبارة عن توجهات تكتيكية مشغولة بموضوع السلطة ولم تنطلق من عقل ستراتيجي لبناء الدولة. وهنا يأتي التشخيص الدقيق والصحيح الذي قدمه الصديق عمار البغدادي فيما يتعلق بحاجتنا الى "عقل ستراتيجي مستقبلي لبناء الدولة".
قليلون تصدوا لحل هذه المشكلة او لسد هذا الفراغ. ومن ذلك ما قمت به بطرح مشروع الدولة الحضارية الحديثة، وهو طرح يضاهي ما قدمته الثورة الانجليزية والثورة الاميركية والثورة الفرنسية وبدرجة ما الثورة الروسية والثورة الايرانية. ما يجمع طروحات هذه الثورات انها لم تكن تكتيكية، ولم تنشغل فقط بملابسات الحاضر، انما تعاملت مع الحاضر من خلال رؤية المستقبل. وبعبارة واضحة اقول ان العقل السياسي الذي قاد هذه الثورات كان عقلا ستراتيجيا مستقبليا وليس عقلا تكتيكياً منغلقا على الحاضر المعاش.
ان اطروحة الدولة الحضارية الحديثة تحاول الخروج من مأزق التكتيك الراهن والانتقال الى رحاب الستراتيجية المستقبلية، وهي ستراتيجية تستمد قوتها من وعي سياسي خاص لحركة التاريخ التي ترى ان المجتمعات تسير بخطى وئيدة نحو نموذج الدولة الحضارية الحديثة منذ ظهور الاشكال "البدائية" الاولى للدولة والى الان. صحيح ان بعض المجتمعات تفشل في اللحاق بهذا الركب التقدمي التراكمي، لكن المسيرة العامة للانسانية تسير بهذا الاتجاه كما تبرهن عليه كل المؤشرات الملموسة منذ اكثر من ٥ الاف سنة.
ـــــــــ
https://telegram.me/buratha