د. عطور الموسوي ||
لم أرها ولكنني انجذبت اليها كثيرا من حديث الكثير من أخواتي ..كلنا ندين بالفضل لوالدينا أن علمونا معالم ديننا وفتحنا أعيننا على التوحيد وكل أصول الدين ووفقنا الله للثبات عليها وكل حسب عمله، الا هي قد ابتعدت أيّما ابتعاد عن النهج الحق وقضت شطرا من عمرها مغرر بها بعيدة عن ربها ..انها اكرام محمد علي إمرأة في مقتبل ثلاثينيات عمرها، حكم عليها بالاعدم كونها من قياديات الحزب الشيوعي العراقي وزوجها مثلها وهي قد نفذت عمليات لهذا التنظيم في العراق وخارجه بكل ولاء وعقيدة..
وصلت سجن الرشاد عام 1984كعادة المحكومات ينتظرن التنفيذ في غرفة (المحكومات بالإعدام) في القسم السياسي لسجن الرشاد، بغض النظر عن انتمائهن.. وتتجنب إدارة السجن من تسميته بالسياسي كي لا يكون مؤشرا على وجود معارضات لحكم البعث الجائر،فرقّمته ب(القسم الثالث)، وأغلب نزيلاته من خيرة كفاءات العراق النسوية وحكمن لانتمائهن الى حزب الدعوة الاسلامية، بين الاعدام وفق المادة 156 أ من قانون العقوبات وبين السجن المؤبد وفق نفس المادة ب..
قضت إكرام ما يقارب ثمانية أشهر بين هؤلاء الاخوات المؤمنات الواعيات فكان قسم الثالث كما يسمونه منبعا للعفة والكرم والخلق الرفيع، يشع عطاءا وهدى لكل نزيلات السجن من جميع القضايا رحمة ورأفة بهن، واقتداءً بأئمة الهدى عليهم السلام، اما هذه العلوية نقية السريرة فقد اهتدت عندما بحثت عن ربها سبحانه بالفكر والنقاش والتحاور، وكان للأخوات الداعيات دورا كبيرا بإعادتها الى العقيدة الحقة بالحكمة والموعظة الحسنة، فصارت صائمة راهبة عابدة ساجدة لله ليلا في خلوة قد لا تخطر على بال احد .. الا وهو (المحجر) غرفة صغيرة جدا مظلمة بابها الحديدي لا شباك له، يتوفر عادة في أقسام السجن لغرض معاقبة السجينات وخاصة من يشاكسن أو يحاولن الهرب، عندما يصدر قرار الادارة بحجر احداهن لأيام وحسب العقوبة ومساحته متر واحد في متر ونصف ..
حدثتني إحدى السجينات من هذا القسم : إن اكرام عندما اهتدت توّلد عندها شعور أن تسابق الزمن لأداء ما عليها من صلاة وعبادات، وتخشى ان ينفذوا فيها الاعدام قبل ان تؤدي قضاء مافاتها من واجبات، وفي الغرفة المخصصة لسكن المحكومات بالإعدام لا يمكن ان تحقق خلوة مع ربها فهي مفتوحة طيلة وقت الدوام ومعرضة لزيارات السجانات المفاجئة، كما ان في القسم سجينات يرافقهن أولادهن الصغار وبذلك لا يمكن ان تحصل على الهدوء المنشود بالنسبة لها.
وتكمل هذه الاخت : المحجر كان متروكا لحسن سير وسلوك سجينات القسم السياسي، وقد جعلناه مخزنا للأغراض الزائدة، تقول: ذات ليلة حلمت ان المحجر فارغا الا من سجادة صلاة وتربة ومسبحة.. واكرام قد وقفت تصلي فيه بخشوع، فلما حدثتها بحلمي فرحت كثيرا وقالت: نعم إنه ربي يريدني ان أدنو منه واختلي به لوحدي..
فسارعنا لإفراغ المحجر من ما احتواه ونظفناه وصار مصلى لإكرام تتعبد به رغم ظلمته تلمس أنوارا الهية وكأنها تعيش شطرا من حياة مولاها وجدها الامام الكاظم عليه السلام.
نعم أمهلوها بضعة أشهر ولم ينفذوا الاعدام وهذه من الحالات النادرة ففي الغالب لا يتجاوز الوقت بين الحكم وتنفيذه سوى شهر واحد، ربما لحكمة الهية انجزت ما عليها ولم يتبق الا بضع اشهر صلّتها الاخوات عنها متقاسمات أيامها، وكل منهن تشعر أن من حق اكرام عليها أن تساهم بأداء واجب الصلاة الفائتة عنها والتي اعاقها الموت البعثي عن ادائها..
نعم خرجت اكرام للإعدام بكامل حجابها متحدية ادارة السجن البعثية وضابط الامن الجلاد الذي ساقها للموت، وذلك بعد أن اغتسلت غسل الشهادة وارتدت ثيابا بيضا تعدها لها سجينات القسم الثالث بمثابة كفن يكتب عليه دعاء الجوشن ومستحبات اخرى.. مستبشرة بلقاء الله وتسرع بخطاها لتلقى رب غفور رحيم بعباده..
اما أنا فقد أراني الله لطائف قدرته وتأكد لي مضمون الآية الكريمة " بل أحياء ولكن لا تشعرون " ففي نفس الليلة التي نشرت بها آخر ما كتبته إحدى الاخوات السجينات عنها والتي كانت ملازمة لها في ذاك السجن الظالم، حيث كتبت هذه الاخت سلسلة من المنشورات تحدثت بها عن اكرام وعودتها الجميلة لله وانتقالها الكلي من الضلالة الى الهدى وعن خلوتها مع الله في ذلك المحجر وعن يوم اعدامها، وكنت استلم منها المقالات وارفقها بصورة معبرة وانشرها على مواقع الاتصال، وبعد ان كتبت السطور أعلاه وقبل ان انشرها، طافت الشهيدة في عالم الرؤية على تلك الاخت وبدورها حدثتني بحلمها الذي سأنقله نصا منها :
" هذه الليلة المنصرمة كنا انا وانت في مكان لا استطيع وصفه سوى انه لا يشبه عالمنا، كل شيء يميل فيها الى الغروب.. وهناك بعيد تقف نساء محجبات ويسرن ببطء ليدخلن الى باب اوسع التفتت الينا احداهن واتجهت نحونا، ما إن وصلت ذهلت انا لمرآها انها اكرام !
اردت ان اقول لها شيء جمد الدم في عروقي وتوقف لساني عن الحركة والكلام
نظرت الينا بحنان وقالت لكلينا بصوت واضح : شكرا..
شكرا جزيلا..
كانت ترتدي عباءة بيضاء فوق ثيابها شبيهه بعباءة الايرانيات التي يصلين فيها
ثم نظرت الي وقالت: "وفيتي...وفيتي "
اردت ان اعانقها.. ان اكلمها ما استطعت
استدارت وذهبت لذلك الباب الواسع لتدخل فيه
وهي تنصرف
سالتيني: أهي اكرام؟
قلت: نعم انها اكرام
انطلق لساني اخذت اصيح بصوت متقطع اكرام انتظري التفتت قالت :سأعود ثم مضت.."
وهذه نعمة تستوجب شكرا لله الذي أرسل لنا علامة تدعم عملنا في إظهار تضحيات نساءنا الشهيدات وبشاعة ظلم حقبة البعث التي قمعت خيرة العراقيين قمعا لا مثيل له في تاريخ البشرية دون أي استثناء لأي فئة عمرية .
فسلام على الشهيدة اكرام التي حباها الله بنعمة الهداية وفازت بدرجة الشهادة، ونسأله تعالى شفاعتها يوم الورود .
الجمعة 15 نيسان 2022
13 رمضان 1443