د. نعمه العبادي ||
لا يزال (الديني) أفكارا واشخاصا وجهات، احد الاطراف الرئيسة في تشكيل مجمل المشهد السياسي، وقد تفاوت دوره من مرحلة الى اخرى، فقد وصل في اوقات كثيرة الى حد التدخل في التفاصيل والجزئيات، فيما انكمش في اوقات ثانية الى الحد الذي اعلن فيه الابتعاد الكامل، وقد اختلفت وجهات النظر الى حد الانقسام الحاد حول فوائد انخراطه العميق ومضار ابتعاده شبه التام، وبناء على هذا الانقسام الحاد تنقسم المواقف من ضرورة او عدم ضرورة التدخل مع الاختلاف حول مستويات هذا التدخل.
يتصاعد هذا الانقسام حول مشروعية ومطلوبية هذا التدخل اوقات الازمات الحادة والاختناقات السياسية، والتي صارت عادة ملازمة لكل موسم انتخابي، حيث يعول الكثير على (الديني= المرجعية) في فك الاشتباك، وإلزام الاطراف المتصارعة والمتقاطعة على التفاهم والقبول بحلول وسطية، وربما تطرح خيارات معينة تقدم كأنها نصائح، لكنها في الحقيقة رغبات مؤكدة، ويراهن الطرف الاكثر انحيازا الى هذا الاتجاه، على ان تدخل (الديني) هو الخيار الوحيد والحصري، فيما يذهب الاتجاه المعارض لهذا الدور في الرغبة لابعاد (الديني) عن ساحة الصراع السياسي سواء كان هذا الموقف من منطلق الحرص والحب لسلامة الموقف الديني او من باب الاعتراض والرفض لكل دور يمارسه (الديني) في العملية السياسية.
بغض النظر عن هذا الجدل، يعتقد هذا النص بأن التذبذب بين الانخراط العميق والانكماش الشديد لدور الديني في المشهد السياسي مصدره عدة اسباب وتحديات تتمثل في الاتي:
١- عدم وجود رؤية نظرية محددة المعالم والاطر ترسم بشكل دقيق وصارم الحدود التي ينبغي ان يختطها (الديني) من المشهد السياسي، وان اقصى ما متوفر في هذا الاطار، رؤية عامة تشير الى اتجاهات كلية، لكنها لا تلبي الحاجة للاجابة عما ينبغي فعله في التفاصيل، فكل تنظيرات الفكر السياسي القائمة على المرجعية الدينية بما فيها اطروحات ولاية الفقيه المطلقة، لا تجيب على التفاصيل الاجرائية، ومساحة النقص كبيرة في هذا الاتجاه، لذا تأتي المواقف مختلفة من حيث قربها وبعدها من المشهد السياسي.
٢- تتصل هذه النقطة بما سبق، وتتعلق بعدم وجود اجهزة ومؤسسات معنية بشكل حصري للاستجابة وتنفيذ متطلبات دور الديني في العملية السياسية، حيث يتم الاعتماد على الاشخاص والعلاقات والاستجابات، دون ان يكون هناك ادوات معتقدة وممثلة ومدربة ومستجيبة لمتطلبات الرؤية الدينية وموقفها من المشهد السياسي.
٣- الثقافة الانتقائية لمعظم الجمهور بما فيه الجمهور الداعم والمحبذ للدور الديني في العملية السياسي، إذ لا توجد تربية عميقة على الطاعة والاستجابة، كما ان صناع الرأي العام واطراف توجيه الموقف الشعبي يتسمون بذات المزاجية التي تطبع الجمهور العام، لذا يصبح القلق من تخلف الاستجابة حالة عامة.
ان هذه التحديات والاسباب تجعل المراهنة بإستمرار على الدور الديني نحو من المجازفة بل هو الاحالة على ازمة اكثر تعقيدا.
انطلاقا من هذه الاشكالية لا يبقى من الفاعلين المتاحين في الافق العراقي كعوامل دفع مؤثرة في تفكيك الازمات غير طرفين، هما:
١- المصالح الجهتية والشخصية والمنافع المنظورة، حيث يدفع هذا الضاغط للقبول بتسويات وتقاربات وتنازلات، وقد انفرجت معظم الازمات تحت ضغط هذا العامل إلا ان المشكلة الاكبر في نتائج الحل عبر هذا الضاغط، فمؤداه المزيد من الخسارة للوطن والمواطن، وعدد اكبر من المشاكل المرحلة.
٢- الضاغط الشعبي غير المؤدلج، والذي يمكن ان يأتي بأشكال مختلفة تعكس حجم السخط الجماهيري مما يجري، ويواجه هذا الضاغط عدة تحديات منها:
أ: ايمان معظم اطراف المشهد السياسي بفلسفة المطاولة على عدم الاستجابة لطلبات الجمهور، والتي تضمن تفتيت الصوت الجماهيري.
ب: انعدام التنظيم والتوجيه في الضاغط الجماهيري.
ج: الدور الخارجي الذي يشتغل في معظم الاحيان على افراغ العامل الجماهيري من مصادر قوته.
وخلاصة القول ان هذا الضاغط يحتاج الى بصيرة بهذه التحديات واستعداد لمواجهتها، ليكون البوصلة التي تتحرك وفقها العملية السياسية.
ـــــــــ
https://telegram.me/buratha