كوثر العزاوي ||
ثلة من النساء في بلدي العراق على غير عادة النساء، منهنّ من قضت نحبها بعد التغييب ووحشية التعذيب ودُفنت مع المئآت وأصبحن مفقودات الأثر كقدوتهن الزهراء، ومنهن من أُعدِمت شنقا في مقاصل دهاليز البعث الكافر، أو على الكرسي الكهربائي في أقصى درجات الصعق القاتل بعد الحكم عليها صُوريا في محكمة الثورة سيئة الصيت، ومنهنّ من تنتظر بعد سجن طويل في سجون ذات النظام السفاح في حقبة حُكمهِ المظلمة وقد أُفرِجَ عنهنّ لحكمة للباري "عزوجل" لتواصل مسيرتها نحو الله كما عاهدت بعزم وثبات، ومن هذه المحطة، ارتأت إحدى السجينات لتضيء على بحبوحةٍ نورانية لها مع شهيدة قبل إعدامها لتروي بعض خلجات بهمس الطهر والاخلاص، لتفعِم الروح راحة وسكينة فتقول:
وأنا انظر بعينين عذراوَين لم ترَ إلا آيات القرآن، ولطالما غضّت البصر عن ما نهى الرحمن في عمر الورد الرّيان، لألمَح خلالهما رشحات الجنان في عَينَيْ"فاطمة" تلك العلوية اليافعة، وهي تترقب كل يوم ساعة اللقاء هناك في الجنان حيث الحبيب"جمال" زوجها الذي سبقها بأيام، وقد تعاهدا باللقاء! تراها تتعجّل الرحيل بعد أن حكموا عليها بالموت عنوة، ظنّا أنّهم قد أذلّوها وحرموها العيش، لكنهم أغبياء، لم يفقهوا الوجه الآخر الأكثر إشراقة للموت -الشهادة- الأجمل من الحياة الزائفة تلك التي تحدثت عنها " فاطمة الحسيني" والابتسامة تزيدها نورا يتوهج من جبينها وأنا انظر ماوراء تلك الابتسامة التي حملت من الأحاديث وهنًا على وهنٍ ووهجًا من وهج، وهي تكلّمني بلسانِ التي قد زهِدت بكل مافي الدنيا من بهارج وزينة.. تنظر إلى الأرض، تعبث بأصابعها التي شوّهتها جَمر سكائر ذئاب الليل وكأنها سخِرت من كل شيء!! وبين الفينة والأخرى ترسل بشعاع طَرْفِها نحو السماء متمتمة، وبابتسامة تخفي خلفها أقدس علامات الرضا والتسليم مشفوعة بقول: "الحمد لله رب العالمين" وقبل أن تعود مُطرِقة ثانية، تتلطف عليّ بنظرة حنون كانت بالنسبة لي غنيمة ملأت كياني نورا!!
تجاذبنا أطراف الحديث في شأنٍ مشترك يخصّ القضية التي حُكِمنا على أثرها، وكنا لانعرف بعضنا قبل الاعتقال، وحينما علِمتْ أني احدى عناصر الخط الذي كانت مسؤولة عنه، سألتني وقد لمحتُ في عينيها رقراق دموع نابضة وهي تقول:
(هل تعرفي؟.. أنني لم أشعر بألم ووجع يعتصر قلبي طوال فترة التعذيب ووحشية مالاقيت من جولات وجولات، كما اليوم وأنا اسمع بخبر صاعقة الخيانة لأحدِهم وأنه لم يصمد حبًّا بالحياة!! لنكون انا وانت وغيرنا الكثير في قبضة الجلّاد ولم نُكمِل طريقنا بعد! ياالها من صدمة!!
وفي أثناء حديثنا وسخونة الخبر، سألتني"فاطمة" سؤالًا في جوهر الصدمة فأجبتها، غير أني قرأت في ملامحها وَجعٌ وشيء من دموع، "فهمتُ مغزى كلامها"..وضعتُ يدي على وجهي من شدة مارأيت في قسمات وجهها، أجهشتُ بالبكاء وهويتُ نحو وجهها المبارك لأقبّلهُ، فسبقتني شادّة على يدي قائلة: ساعدكِ الله أختاه انت والجمع من الأخوات هنا على تحمّل أعباء هذه الدنيا، وكيف ستتحمّلن البقاء فيها!! قالت ذلك وهي مبتسمة،غير اني فهمتُ كم انها سعيدة بالموت الذي تنتظره بشغف كمن ضمنَ الجنة!! فايّ يقين بربّها وأي ظنّ جميل يراودها لدرجة أنها تنتظر الجلاد ليأخذها الى الإعدام كما تنظر الى من تبقى بعين الشفقة! وفي صبيحة يوم قائض، حان موعد اللقاء، فجاء فريق الجريمة ليأخذوها، فتراها تسرع الخطى تتهادى والابتسامة تزيدها جمالًا وثبات، كما أصابت جلّاديها بالبؤس والذهول! إنها نشوة الانتصار على الشيطان والجلاد..والتحقت "فاطمة" بقافلة العشق مع من سبقها من عشاق الشهادة.
فسلام لروحك أختاه ولعينيكِ التي ملأت روحي شعاعًا "سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار"
١٦شعبان ١٤٤٣هج
٢٠-٣-٢٠٢٢م