ضحى الخالدي ||
(قصة قصيرة غير خاضعة للاشتراطات الأكاديمية)
كان يا ما كان في الألف الثالث قبل الميلاد، حين كان اسمي ضياء دوحي… لا تستغربوا فحسب عقيدة الحلول ونظرية انتقال الروح في أجساد مختلفة عبر الأجيال، والتي تعد موضة اليوم، كانت روحي في جسد شاب نحيل من بلاد ما بين النهرين Mesopotamia (يركض والعشا خُبّاز، والدنيا خابزته خبز، وماكو نبي، أو ولي، أو طاقة نورانية بأرض الرافدين ما نصرها) من الروح القدس لابراهيم، وما بينهما من باقيرو، وصاديقو، لإيليا؛ كلها على طريق محمديم كما ذكرته المزامير.
في ذلك الزمان، كانت هيبة الدولة المترامية الأطراف واصلة لأبي موزة، وأبو موزة هذا هو تعبير ميتافيزيقي قديم من الأدبيات النهرينية السومرية خلال الفترة الانتقالية الممتدة بين ضمور الإمبراطورية الأكدية، وظهور الحضارة البابلية، وما بينهما من غزوات گوتية وحيثية أتت على بقايا السومريين المگاريد إلا قليلاً، حيث (إن مطرت وإن صحت شمحصّل العاگول-الذي هو أنا السومري بطبيعة الحال).
في ذلك الزمن الجميل، كانت قوى الدولة تبسط سيطرتها على أطراف الإمبراطورية، وكان مبدأ الفصل بين السلطات معروفاً لدى الأقوام الزحلية -نسبةً الى زحل- التي إستوطنت أرض الرافدين في تلك الحقبة، قبل أن يقول به مونتسكيو، وكان القضاء حُرّاً، والحكومة نزيهة، والبرلمان شفافاً، والجهاز (عمت عيني على الجهاز) مهنياً غير مجيّر لنزوات الملك، ولا يتدخل في صلاحيات المؤسسات الأخرى للدولة، بل يقوم بواجباته المناطة به على أتمّ وجه سيما في بسط السيطرة الكاملة للحكومة الاتحادية على المنافذ الحدودية لإقليم الدولة الميدية في ما بين النهرين، وانبثقت عن الجهاز لجنة بأمر الملك، اسم الله عليها من شر غاسق اذا وقب، ومن شر حاسد اذا حسد، فإذا (حطّك الملك الضليل برأسه، تخبزك اللجنة خبز تطلّع منك خبز عروگ، شريطة أن تكون الحنطة كردية).
وكان الإعلام يقود الحياة في تلك الحقبة السومبلية [لا هي سومرية على وجه، ولا هي بابلية، ونحتت في معمار اللغات الحية الحديثة بصيغة (السبهللية) والمصدر منها (سبهللة)]، فإذا أرادت الدولة السومبلية، أو السبهللية (طمطمة) فضيحة ما، أثارت الغبار والدخان (والثعوال والعطّاب) حول فضيحة أدهى.
وكانت المناصب لا تشترى بالمال، ولا تُكيّل بالبيتنجان كما يقول الزعيم عادل إمام الذي يضع زعماؤنا فهلويته في جيوبهم وتحت آباطهم، بل يذهب فداها -المناصب- الولدان، ويدفع ثمنها الصبيان (وكلنا نروح فدوة بالدم وبالعيون، للكريستال وحبوب الكبتاغون)، وما أدراك بحديث المحافظة، ثم ما أدراك بحديث المحافظة؟! وكانت الدولة تحتكر مصادر القوة أصولياً لفرض النظام، وتطبيق القانون العام المجرد الذي لا يحابي ولا يجامل، ويقف من الجميع على مسافة واحدة…بالمسطرة.
(فد يوم) كنت أقود عجلتي السومرية، وهي اختراع آبائي وأجدادي، وهديتهم الى العالم المدني المتحضر المتطور مثل أوكرانيا التي لا يشبه لاجئوها اللاجئين العراقيين والأفغان حسب قول أحدهم، ذلك أن العراق لا يصدّر الرقيق الأبيض باسم الفن تارةً، وباسم العمالة الأجنبية تارةً أخرى، ولا تقف العراقيات عارياتٍ على شرفات أبراج دبي وأخواتها كما تفعل الأوكرانيات.
كنت أحمل عدداً من أقلامي (القصب) التي كنت أنقش بها كتاباتي على ألواح الطين، وكانت (وما تزال) سلاحي الوحيد الذي (أزامط به) منذ ذلك العصر، (فالمزامط) طبع لدينا، وليس تطبعاً؛ كانت الأقلام تحتاج (قَطّة)، و(قَطّة) بالسومبلية (السبهللية) تعني (البَرْي) بمبراة خاصة بأقلام القصب، ولم تكن تعني (تهليس ريشاتك من أول الشهر) كما في اللغات الحية الحديثة.
عموماً، ذهبت (للقَطّ) في ورشة تقع في (كوثى) أو (كوفان) أو ما تعرف (ببانيقيا)، ومررت بباب- إيل في طريقي من باغ- داد، وكنت أحمل (رُقُمي الثبوتية) كافة، وتحمل عربتي رقماً رسمياً تابعاً لإحدى مؤسسات الدولة منحوتاً على حجر البازلت البركاني، وكانت مهمتي رسمية، وإستقرت أقلامي المحتاجة الى صيانة (وقَط) في (بَدي) العربة.
لم تكن نقاط التفتيش بدعة اقتصرت على عهد (ابن صبحة) أحد مماليك دولة العبيد في العصور الحديثة، فقد ألفناها منذ فجر التأريخ، (ويا ويلك ويا سواد ليلك) إن كانت نفسية العسس متعبة ذلك اليوم، لأنه (سيطلّع على جلدك الضيم والقهر كله)، وأما إن كان يحمل توصية بخصوصك (والشغلة استنصاد كما يقول المرحوم سعيد صالح، فهاي اللي الله كتبها عليك بعد)؛ عموماً جيب الرقيم، وَدّي الرقيم، حَطّوني بالتوقيف، وتحفّظوا على العجلة السومرية المجيدة.
بعد ساعات مضت بطيئة، جاءت قوة من الجهاز، واللجنة بأمر الملك لتوجه الاتهام الآتي لي:
(انت اللي قتلت الحنش)…عفواً…انت الذي رميت قصر الملك بالمنجنيق.. سيماؤك توحي بذلك، ولربما ستستعمل أقلامك (القصب) مستقبلاً في خدش (الصبغ واللبخ والبياض) الخاص بقصور الملك والحاشية والطبقة المخملية، ومعابد الآلهة، ومهاجع الكُهّان.
إعتقلتني القوة، ووضعتني في الحبس التابع للجنة خمسين يوماً تعادل خمسين ألف سنة مما تعدّون (وعينكم ما تشوف الا النور، ضربوني؟ قليلة! عذّبوني؟ شوية! قشّروني كما تُقشّر البرتقالة، وخبزوني خبز عادي وعروگ وتفتوني، وفي نفس ذات الوقت شووا على رأسي بصل… ومن ورا التنور تناوشني الرغيف…يا رغيف الحلوة يكفيني سنة).
بعد خمسين ألف سنة مما تعدون، يفقد فيها الانسان احترامه للإنسانية، ويكفر بالدستور، ويلعن أم القانون-أجبر أحد القضاة في ولاية (چرخلة) القريبة، أجبر اللجنة على عرض قضيتي أمام محكمته، وأنا (ما گلت باطل) تحدثت أمام القاضي بكل شيء، من طقطق لسلام عليكم، ومن العجين الى الخبز، ومن الرقم الثبوتية الى الحمام الزاجل الذي حمل توكيدات المؤسسة التي أنتمي اليها بأنني مبعوث في مهمة رسمية أصولية للقيام بأعمال الصيانة، ومن تغييبي في مطامير السجون الى عدم عرض قضيتي على القضاء، وهو حق مكتسب قد كفله لي القانون والدستور والشريعة؛ فأمر القاضي بإيداعي الحبس في سجن تابع لجهاز (الشسمه) بدل سجن اللجنة، وعَدّ القضاء ما قامت به اللجنة مؤشراً سلبياً على أدائها.
لما سمع الملك بذلك أرسل قوة تابعة للجنة، وبالتالي الجهاز، لتحريري من قبضة القضاء، وإعادة أسري لدى اللجنة حيث (لا من شاف، ولا من دري) بحجة وجود مخاوف من أن تكون ورائي جهات تحاول تهريبي من المحكمة. كان منظر قوة الجهاز، واللجنة تحديداً، وهي تحاصر محكمة (چرخلة) مثيراً للاشمئزاز في بلد يتشدق سياسيوه بتقديم أغلى التضحيات على مذبح الحرية والديموقراطية ومبدأ الفصل بين السلطات؛ كان منظر القضاء في عيني مثيراً للشفقة، كان ازدراؤه بهذا الشكل مثيراً للحنق.
لم يكن أمام المحكمة من بُدٍّ سوى أن تصدر مذكرة إلقاء قبض على رئيس اللجنة، وقائد القوة المداهِمة التي إختطفتني، لكن من سينفذ هذه الأوامر القضائية في ظل دولة بوليسية أصدرت أوامرها مسبقاً بإقالة الضابط الذي كنت في عهدته في المحكمة من منصبه، ونقله الى قيادة أركان جيوش الإمبراطورية.
ولأن الملك يمتلك الحق الإلهي في الحكم كونه منصّباً من الآلهة فلا بد بعد هذه (الچرخلة) من الاستقسام بالأزلام، وضرب القِداح للقرعة لمعرفة نصيحة الآلهة، وكان لا بد للملك من إقناع العالَم الآخر بأني أنا العبد الفقير المسيچين المظيليم (بس مو گليّل لوأريد أهد) هو مَن إستهدف قصر الملك الذي يعد ممثل الآلهة على الأرض، وقال بأن بصمات أصابعي كانت على حجر المنجنيق الذي ضرب قصر الملك رمز سيادة الإمبراطورية، والذي لا أعلم مِن أي (گزْوَة) إنطلق، فلا بد من أن أبقى حبيساً في سجون الملك المظلمة ولجانه، مما يدل دلالة واضحة على أن الحضارة السبهللية قد سبقت فرانسيس غالتون في مجال الكشف عن عدم تطابق بصمتي إصبعين، ولو في كف واحدة… هنا، أرسلت الآلهة إشاراتها، وظهرت العلامات والأمارات والدلائل والإشارات، و…هناااك (فزّيت ورگعت) رأسي بشباك الكوستر التي كنت أستقلها في طريقي بعد سِنَةٍ عجيبةٍ غريبةٍ في (ظُهريةٍ) قائضة من (ظُهريات) الربيع العراقي (ابن النفاس) بعمره، والذي (نسمع بيه منشوفه)؛ عدّلت هندامي، ومسحت أنفي وفمي بمنديلي الورقي الذي لا يفارقني، بعد أن كنت أهذي في السيارة أبان (الفَزّة): سبهللة…سبهللة…سبهللة.
نظر (العِبرية) إليّ بين ساخر، ومشفق…هربتُ بعيني نحو شباك الكوستر لأستطلع الطريق، وأكتشف ملامحه؛ (لچحت) رَبّ أسرة عراقية أصيلة تعرفه بسيماه من كرشه البارز، وصلعته المبكرة، (والضيم) في وجهه، وهو يتهيّأ لاستقبال موسم الصيف المقبل من الآن، حاملاً حزمة (الحلفة) بين يديه، متيقناً أن تجهيز الكهرباء الوطنية هذا الصيف لن يفوق المواسم السابقة، ولا بد من الاعتماد على المبردة التي يمكن تشغيلها بقوة الله وعزم جبار أبو المولدة، فلا وطنية ولا سبلت ولا فنديكيشن (أير كوندشنر أبو الكومبريسر)؛ كان يساوم بائع الحلفة، وكلاهما (يحلف ويتكفّر):
-إي شدعوة هالإجرام؟! لويش مغلّين الحلفة هلگد؟!
-يا ناس يا عالم زيادة سعر صرف الدولار أكل من القدرة الشرائية لدخل المواطن ما لا يقل عن ٣٠٪
-نفس الحال الموظف والكاسب
-والله إجرام
-والله إجرام
-لا يالحمزة
-لا يالكعبة
كانا يرددان إستغاثتهما بدات الإيقاع الذي كنت أردد فيه هذياني بين المنام واليقظة: سبهللة.. سبهللة..
أي دولة سبهللية هذه لا وجود لها في كتب التأريخ كلها؟!
نعم، انت تعيش في الحد الفاصل بين الواقع والخيال.