محمد عبد الجبار الشبوط
يطرح الفيلسوف الاميركي جون راولز ( ١٩٢١-٢٠٠٢) مفهوم "العدالة كانصاف" لمجتمع ديمقراطي ذي "تعددية معقولة". وهو يعرف المجتمع بانه "نظام منصف من التعاون الاجتماعي بين مواطنين احرار ومتساوين". ولكن المساواة او العدالة تعاني من ظواهر "اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية وهي الفروقات الناتجة عن اختلاف المنشأ الطبقي، والمواهب الطبيعية، وفرص التعليم، ونجاحات الافراد او اخفاقاتهم في مجرى الحياة والتي ذكرها القران الكريم في الاية التالية:"وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ فِى ٱلرِّزْقِ". فالاشارة الى "الله" هنا تعني مجمل الظروف الاجتماعية او الذاتية التي تؤدي الى اختلاف "الرزق" بين شخص واخر دون تدخل مباشر من قبل الاشخاص انفسهم. ونتيجة ذلك ظهور طائفة من الناس اطلق عليهم راولز اسم "البشر الاقل انتفاعا"، وهم الذين يطلق عليهم القران اسم "المحرومين"، وهم المحرومون من "المنافع الاولية"، حسب مصطلح راولز. و المنافع الاولية هي الحالات الاجتماعية المختلفة والوسائل الضرورية لتمكين المواطنين من التطور بما فيه الكفاية ومواصلة السعي لتحقيق مفاهيمهم المحددة عن الخير. المنافع الضرورية هي اشياء يحتاجها المواطنون باعتبارهم احرارا ومتساوين ويحيون حياة كاملة.
ولما كانت العدالة مرتبطة بمجموعة من القيم المهمة العالية (الاخلاقية)، باعتبارها (اي العدالة) مفردة اساسية في منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري، ولما كان المجتمع نظاما منصفا من التعاون، كما تقدم، فان الواجب الاخلاقي يفرض على المجتمع التعاون من اجل حل مشكلة اللامساوة الطبيعية. وهذا ما يذكره القران الكريم بقوله:"وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ". فكل الاعمال التي تستهدف حل هذه المشكلة تندرج تحت عنوان البر والتقوى، مع ملاحظة ان هذه الاعمال لا تتم بصورة فردية منعزلة عن بعضها البعض وانما تتم عن طريق "التعاون"، فهي نشاطات جماعية تتطلب التنظيم والتنسيق والادارة.
وهنا يفترض راولز وجود وسيلة ما لتحويل جزء من عائدات الجماعة الاكثر انتفاعا الى الجماعة الاقل انتفاعا، وهذه الوسيلة هي الضرائب. وهذا ما يشير اليه القران بقوله:"إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ". والضريبة، زكاةً كانت او غيرها، هي عبارة عن مصداق عملي لاعادة توزيع جزء من الثروة لمعالجة حالة اللامساواة الطبيعية وتقديم الدعم المادي للبشر الاقل انتفاعا من موقع اخلاقي سامٍ.
ويمثل هذا الترجمة العملية لما قاله راولز من ان "التوزيع في العدالة كانصاف يحصل وفقا لمطالب مشروعة واهلية مكتسبة. وهذه تعينها القواعد العامة لنظام التعاون الاجتماعي.". وفي مجتمع يقبل منظومة القيم القرانية مثلا، فان القران الكريم هو الذي يحدد "القواعد العامة لنظام التعاون المنصف". وفي الحالتين، اي حالة سلطة القران الالهية، او سلطة البشر الوضعية كما في الدولة، فان الناس في المجتمع الواحد، بوصفه نظاما للتعاون المنصف، يتعاونون فيما بينهم من اجل حل مشكلة اللامساواة الطبيعية في اطار المبدأ الذي اطلق عليه السيد محمد باقر الصدر عنوان "التكافل الاجتماعي" والذي عرّفه بانه "المبدأ الذي يفرض فيه الاسلام على المسلمين كفايةً كفالة بعضهم لبعض."(يمكننا استبدال كلمة المسلمين بكلمة المواطنين لتشمل الكفالة المسلمين وغير المسلمين) "ويجعل من هذه الكفالة فريضة على المسلم (او المواطن) في حدود ظروفه وامكاناته يجب عليه ان يؤديها على اي حال كما يؤدي سائر فرائضه".
وتتولى الدولة تنظيم هذه العملية على مرحلتين، الاولى ان تهيء للفرد فرص ووسائل العمل بصورة عادلة منصفة لغرض المساهمة في النشاط الاقتصادي المثمر، مثل المشاريع الصغيرة، ليعيش على اساس عمله وجهده، فيكون فردا منتجا. وفي المرحلة الثانية تقوم الدولة بتطبيق مبدأ الضمان الاجتماعي اذا كان الفرد من ضمن فئة الاقل انتفاعا او المحرومين لضمان مستوى الحياة اللائق والكريم للفرد. وتوفر الدولة المال اللازم لهذه العملية عن طريق الملكية العام التي تشمل الثروات الطبيعية كالنفط، اولا؛ وعن طريق الضرائب التي تفرضها على فئة الاكثر انتفاعا، ثانيا.
https://telegram.me/buratha