د.أمل الأسدي ||
لاشك أن فطرة الإنسان السليمة تدعوه إلی الوسطية والاعتدال،وعدم الانجراف إلی التطرف يمينا أو يسارا،وهذا مبدأ قرآني إذ قال تعالی:((وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا...)سورة البقرة،الآية :١٤٣
فإذا كان توجيه المعنی في هذه الآية علی أن الأمة الـوسط هم آل محمد ،كما قال الإمام الباقر(ع)،ويكون الرسولُ الشاهد الشهيد علی وسطيتهم،فهذا يعني أنه وجب علينا اتباعهم؛لأنهم مركز وسطي،وخطباهم خطاب يستوعب الجميع،ويضم الجميع،وهكذا كان سلوكهم في حياتهم مع فئات المجتمع كافة،علی اختلاف طوائفهم وأعراقهم وأعمارهم،فأهل البيت امتداد الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله)ورسالتهم امتداد لرسالته الإنسانية العالمية،فلا تطرف أو تحيز إلی جهة ما،بل اعتدال وقبول للآخر واحترام متبادَل،ولايُتصوّر في الذهن من مفهوم الوسطية إلا نقطة الارتكاز التي تجمع الناس حولها،ولا يمكن أن تقوم هذه الوسطية،وهذه المركزية إلا إذا كانت حاملةً لأجمل الصفات،الصفات المتجسدة بالأخلاق الحميدة والقيم الإنسانية التي حمل رايتها الرسول الأعظم كما في قوله تعالی(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)سورة القلم،الآية :٤
وحملها أهلُ بيته من بعده،ولذلك أوصی القرآن الكريم باتباعهم كما أوصت السنة المطهرة بذلك.
وأما التوجيه الثاني لمعنی الآية هو: إن الأمة الوسط هي مفهوم شامل يُعنی به الناس من أمة رسول الله الأعظم،وهذا يقتضي أن تتحمل الأمة مسؤوليتها بإزاء معادلة مهمة ومحورية وهي:"كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة" فهذه المعادلة تتكون من دفتين رئيستين،لا تتحق فائدةٌ لإحداهما من دون تحقق الفائدة للأخری!!
فلا يمكن أن نجد الثمار الاجتماعية المترتبة علی كلمة التوحيد من دون أن تتحقق الدفةُ الثانية من المعادلة وهي:توحيد الكلمة!!
وفي الوقت نفسه لايمكن تحقيق الفائدة المنشودة من توحيد الكلمة من دون أن تتحقق كلمة التوحيد(لا إله إلا الله)،ولايمكن تحقيق هذه المعادلة وتطبيقها من دون وجود الأسوة والقدوة الحسنة،وعليه لابد من العودة إلی التوجيه الأول للمعنی،فلا أسوة أعظم من رسول الله وأهل بيته(صلوات الله عليهم) فقد قال تعالی:((لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا))سورة الأحزاب،الآية:٢١
وبناءً علی ماتقدم يمكننا تعريف الوسطية علی أنها مجموعةُ القيم الإنسانيةالتي اتصف بها الإسلام،والتي تدعو إلی السماحة واليسر والمحبة وقبول الآخر علی ماهو عليه،لا علی ما أنتَ عليه،مع مراعاة الثوابت الإنسانية والإسلامية،والعمل علی أن تكون هذه الثوابت هويةً للمجتمع.
ونجد مفهوم الوسطية حاضرا في قوله تعالی:( لَآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَىِّ...))سورة البقرة،الآية 256 ،وهذا يعني أن الدستور القرآني في البلاد الإسلامية ينص علی حرية الاعتقاد مع المحافظة علی الثوابت الاجتماعية ومراعاة عدم الخروج عنها أو ضربها؛لأن ذلك يسبب ضررا بالغا في النسيج الاجتماعي الإنساني الجامع للأمة،فقد قال تعالی:((إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ))سورة الأنبياء،الآية:٩٢
فدلالة الأمة هنا،وبحسب صاحب تفسير الميزان تعني: جماعة يجمعها مقصدٌ واحد، والخطاب خطاب عام يشمل جميع الأفراد المكلفين من الإنسان، والمراد بالأمة النوع الإنساني الذي هو نوع واحد.
وفي السياق نفسه نجد قول الإمام علي (عليه السلام):
(والزموا السواد الأعظم، فإن يد الله مع الجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب)،ففي العراق مثلا: يجمع الناسَ مقصدٌ شامل وهو الوطن،ذلك الوطن الذي انماز عن غيره بأن أرضه موطن الأنبياء والأولياء والصالحين، وأن أرضه ترسو علی عمقٍ تأريخي زاخر بالتحضر والتعايش السلمي والتنوع، إذن لاسبيل إلی تحقيق العيش الهانئ والاستقرار من دون تحقيق الموازنة المطلوبة بين الإفراط والتفريط،ولاسبيل إلی تحقيق ذلك من دون الوسطية والاعتدال.
ولابد من تحديد ميدان الوسطية،لأنها مفهوم اقتضته رحمةُ الله،ومن مظاهر الرحمة الوسطية:احترام قوانيين البلد الذي تعيش فيه، واحترام الثابت السائد في المنظومة القيمية للمجتمع،ومانراه في واقعنا الاجتماعي من اتهام الإسلاميين بالتطرف،هو عينه ما وقع فيه العلمانيون بالتطرف،حين وقفوا في أغلب المواطن بالنقد والأحكام المسبقة علی الإسلام،بالشكل الذي خلق المشكلات وجعلها في زيادة مع فقدان تقديم الحلول!!
وهذا ماجعل دورهم سلبيا،وجعل الحياة العامة مليئة بالمنغصات والخصومات،وكأننا نعيش حربا ضارية،مع أننا يجمعنا مقصدٌ واحد وهو الوطن كما أسلفنا!!
وهذا لا يعني التبرير لبعض الخطابات الإسلامية المتشددة التي تطلق الأحكام العامة علی العلمانيين وعلی الشباب وعلی النساء وعلی المخالفين،فنحن نبحث عن الوسطية والاعتدال التي ينبغي أن تكون جزءا من طباعنا وسجايانا.
وإذا بحثنا عن تمظهرات الوسطية سنجدها حاضرةً في منهج رسول الله الإجرائي وعلی سبيل المثال: ما حصل في مناقشته لنصاری نجران،إذ سمح لهم بالنقاش المفتوح في داخل مسجده،ولم يخطابهم إلا بالسماحة والمحبة،ولم يلجأ إلی وسيلة المباهلة إلا بعد أن وافقوه علی ذلك،وعندما طلبوا منه إيقاف هذه المباهلة وامتنعوا عنها،أوقفها ولم يستمر،لأن في ذلك هلاكا لهم ولملتهم!وكذلك نجد تطبيق الوسطية في عمل فاطمة الزهراء(عليها السلام) إذ تصدقت بما تملك علی الرغم من حاجتها إليه،ولم تنظر إلی ملة المُتَصدَّق عليه،ليتجسد ذلك في قوله تعالی:((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً۞إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً ))سورة الإنسان،الآيتان:٨-٩ وكذلك يمكن رصد تمظهرات الوسطية في منهج أهل البيت كلهم،فأساس عملهم وخطابهم وتواصلهم قائم علی المحبة والرحمة والموعظة الحسنة،والمرء يعجز عن رصد هذه التمظهرات لديهم،ويعجز عن الإحاطة بها.
وبعد ذلك أيها الأحبة،كونوا في تعاملكم كما قال رسول الله(صلی الله عليه وآله):(( إن الله رفيقٌ يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه)) وكذا قوله(صلی الله عليه وآله):
((إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تُكَرِّهوا عبادة الله إلى عباد الله،فتكونوا كالراكبِ المُنبَتِّ الذي لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى)) فالتطرف يجعلك تقف في منطقةٍ خاسرةٍ لامحالة، كالمسافر الذي هلكت دابته وبقي عالقا في وسط الطريق،لاهو بقي في مكانه وحافظ علی راحلته،ولا هو وصل إلی مبتغاه،وهكذا يكون حال العبد المتشدد،لم يضمن لنفسه الوصول وتحقيق مايصبو إليه،ولم يبق في مكانه فيحافظ علی مكانته ووضعه المتنعِّم برضا الله!