رسم وزير المالية علي علاوي في حديثه الاخير صورة قاتمة بل مرعبة لمستقبل العراق الاقتصادي. ففي حديثه قبل ايام الذي استغرق ٢١ دقيقة بيّن وزير المالية حقائق الوضع الكارثي للاقتصاد العراقي "المرتبط كليا وعضويا" بالنفط. وبدون الدخول بلعبة الارقام التي اوردها الوزير، وهي معروفة للناس، فان خلاصة المشكلة اننا دولة دولة تعتمد كليا على النفط في صادراتها وايراداتها المالية. فنحن كعامل الاجرة اليومية. نبيع النفط لكي نأكل ونعيش. وفي اليوم الذي يتوقف تصدير النفط او يقل سعره فليس لدينا ما نشتري به الخبز. نحن مجتمع نستهلك واردات النفط ولا ننتج ما نأكل. وبعبارة اخرى نحن بلد يعيش على نظام اقتصادي ريعي، استهلاكي، احادي، وليس اقتصادا منتجا متعدد الموارد. وهذه هي احدى النتائج الكارثية الاقتصادية للخلل الحاد في المركب الحضاري ومنظومة القيم العليا الحافة به. يتعلق هذا الخلل بشكل اساسي بعلاقة الانسان بالطبيعة او الارض. والعلاقة في صيغتها السليمة يجب ان تكون علاقة انتاجية. وللارض سطح وباطن. فاما السطح فيجب استثماره في الزراعة والصناعة، وهذه العلاقة مختلة الان، واما باطن الارض ففيه النفط فيجب استثماره في عمارة السطح بالزراعة والصناعة والخدمات، ولكن بسبب اختلال العلاقة فنحن نستخرج النفط ونحوله الى نقد لننفقه على شكل رواتب وتغطية النفقات الاستهلاكية للدولة. وهذا الخلل قديم، بدأ تدريجيا وبشكل غير محسوس بعد ١٤ تموز عام ١٩٥٨ ووصل ذروته الان. ولم تفكر الحكومات المتعاقبة بهذا الخلل المتنامي، وربما لم تشعر به، حالها في ذلك حال الاحزاب العقائدية التي تسيدت المشهد السياسي منذ عام ١٩٥٨ الى اليوم، ويشاركها في ذلك عموم المواطنين الذين تركوا العمل الانتاجي وفضلوا عليه العمل في مكاتب الدولة المكتظة بالموظفين، وانهارت ثقتهم بالدولة فتوقفوا عن الوفاء بالتزاماتهم المالية نحوها. ويتضح من هذه العبارات السريعة والمتلاحقة ان الازمة الاقتصادية في العراق معقدة ومتشعبة وهو ما اسميه الخلل الحاد، بل الاختلالات الحادة في المركب الحضاري. وحين تحدث وزير المالية عن الازمة، ذكر انه سوف يحيلها الى مجلس الوزراء، وهذا ما سبب لي شعورا عميقا بالاحباط لعلمي ان حكومة مؤلفة من وزراء متملقين برئاسة شخص امي اعجز من ان تحل هذه الازمة العميقة المعقدة التي تمتد جذورها عميقا في الطبقات التحتية لبناء المجتمع والدولة، بل حتى المواطن في العراق. ونعرف من خلال قراءة الورقة "البيضاء" زورا السوداء حقيقةً ومن خلال اجراءات الحكومة اللاحقة وبالاخص تغيير سعر صرف الدينار ان الحكومة لا تملك حلا ولا تستطيع ايقاف الكارثة. وهذا ما قدم دليلا ملموسا على انها لا تعرف من اين تبدأ في الحل. والحل عندي يتمثل في الدولة الحضارية الحديثة، التي ستعالج على نحو سريع ومستعجل اختلالين على الاقل، هما: الاختلال في علاقة المواطن بالدولة، والاختلال في علاقة الانسان بالطبيعة. يحتاج الاصلاح الاقتصادي الى انخراط المواطن في الخطة الاصلاحية التي تضعها الدولة. لانه بدون المواطن لا تنجح اية خطة اصلاحية. وهذا الانخراط الشعبي يتوقف على ثقة الشعب بالدولة ومؤسساتها وبخاصة الحكومة. وهذا غير متوفر حاليا. وعلى اي مشروع اصلاحي ان يضع في مقدمة اولوياته استعادة ثقة الناس بالدولة. ويحتاج الاصلاح الاقتصادي الى زيادة وتحسين انتاجية المجتمع في الزراعة والصناعة والخدمات والتجارة. وهذا يتطلب، من بين امور اخرى كثيرة، توجه الدولة فورا نحو المشاريع الانتاجية الصغيرة والمتوسطة، وتوجيه الشباب نحو هذا القطاع، بل توجيه موظفي الدولة "العاطلين" نحوه بدل اعطائهم اجازات مدفوعة، او دفعهم الى التقاعد، وتحرك الدولة بسرعة نحو مستلزمات القيام بذلك، اضافة الى تنفيذ مشاريع اعمار سريعة، حتى لو تطلب الامر الاستعانة بالاحتياطي النقدي للدولة. لن يتحقق شيء من ذلك ما لم يتوفر اجماع وطني على اقامة الدولة الحضارية الحديثة.
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha