محمد عبد الجبار الشبوط ||
كان الارتباط بالدولة لا يتم على اساس الانتماء الى الوطن المعرّف جغرافيا بحدوده الدولية، وانما على اساس انتمائه الى دين الدولة. فالمسلم هو المواطن في الدولة الاسلامية، اما رعايا الدولة الاخرون من غير المسلمين فهم "اهل الذمة" الذين عليهم ان يدفعوا الجزية ولا يتمتعون بنفس الاهلية القانونية التي يتمتع بها المسلم. صحيح ان بعض اهل الذمة وصلوا الى مراتب معينة قريبة من مؤسسة الخلافة في عصورها الثلاثة، الاموي والعباسي والعثماني، الا ان هذه حالات فردية تشكل استثناءً من القاعدة. المنتسب الى دين اخر سيكون اقلية، ومن هنا نشأت فكرة الاقلية المسيحية مثلا حتى لو كان المسيحيون اتراكا او عربا او عراقيين. ومن هذه النقطة، او ربما اقول الثغرة، تسللت الدول الاوروبية الى داخل الدولة العثمانية وانشات لها مناطق نفوذ في اراضي الدولة،لحماية الاقليات الدينية، مثل لبنان. و ما زلنا في العراق نعتبر المسيحيين اقلية رغم انهم عراقيون، وخصصنا لهم "كوتا" في البرلمان،
ولكن بعد سقوط الدولة العثمانية وقيام الدول القطرية-الوطنية الكثيرة في العالم الاسلامية على نموذج الدول الاوروبية الحديثة، لم يعد بالامكان العمل بفكرة "مواطنية عابرة للحدود على اساس الاسلام"، ولا الاخذ بالفكرة القديمة عن "الرعايا"، وصار من الواجب معاملة جميع الافراد في البلد الواحد على قدم المساواة بغض النظر عن القومية او الدين او المذهب. اصبحت المواطنة مقيدة بحدود دولة معرّفة. وهذا هو المبدأ الدستوري الذي تأخذ به الدولة الحضارية الحديثة في اي بلد ذي حدود دولية معترف بها، تقوم فيه، ومن بينها العراق. فالافراد في هذه الدولة مواطنون بدرجة واحدة وعلى قدم المساواة بدون تمييز في الحقوق والواجبات على اساس الدين او المذهب او القومية او اللغة او المنطقة او العشيرة او الحزب، او اي اعتبار اخر غير الانتماء للوطن العراقي والدولة العراقية، الحضارية الحديثة. وهذا ما يجب ان ينص عليه الدستور بصورة صريحة وواضحة وحاسمة تمنع الانحراف او اساءة التطبيق والتجاوز على مبدأ المواطنة.
يتالف الشعب في الدولة الحضارية الحديثة من مواطنين احرار متساوين يجمعهم نظام عادل للتعاون والعيش المشترك.
يتالف الشعب من حملة جنسية الدولة والمقيمين فيها بصورة قانونية، وعابري السبيل.
يتالف الشعب في الدولة الحضارية الحديثة من مواطنين وليس من مكونات. الهوية الطبيعية هي الجامع الاساسي لافراد الشعب. اما الهويات الاجتماعية الفرعية فتحظى بالاحترام والرعاية وما يترتب على ذلك من حقوق.
تقوم العلاقة بين الشعب والدولة في د ح ح على اساس: الانتماء للوطن، و الولاء للدولة، ومنظومة الحقوق والواجبات المتبادلة بين المواطنين والدولة. تقوم الدولة الحضارية الحديثة على اساس منظومة القيم العليا للمركب الحضاري، في مقدمتها القيم الانسانية والوطنية، التي تستوعب جميع مواطنيها على قدم المساواة حتى وان اختلفت اديانهم ومذاهبهم وقومياتهم ولغاتهم.
والمواطنة في د ح ح ليست عرقية او عنصرية او دينية انما هي حق قانوني قابل للاكتساب اذا توفرت شروط قانونية معينة في الانسان المقيم في اقليم الدولة.
غني عن البيان ان مبدأ المحاصصة المطبق في العراق الان يتعارض مع مبدأ المواطنة. وبحجة التوافق والتوازن الوطني والاستحقاق الانتخابي تم منح او تقييد الحقوق والواجبات وتقاسم السلطات على اساس الانتماءات الطائفية والعرقية. واصبحت علاقة المواطن بالدولة غير مباشرة، وانما تتم عبر انتمائه الى منظومة فرعية من طائفة او قومية وحتى حزبية. وهذا ما ظهر من خلال تقاسم الوزارات على اساس قومي وطائفي وحزبي، ثم نزلت هذه الالية الى الدرجات الوظيفية الادنى من وكيل وزارة الى فما دون. ويمثل هذا انحرافا خطيرا وابتعادا كبيرا عن فكرة ونموذج الدولة الحضارية الحديثة التي تعتمد مبدأ "المواطنة اساس والكفاءة مقياس" الذي استبدل بمبدأ "الانتماء والولاء": الانتماء للطائفة والقومية والحزب، والولاء لرئيس الحزب. ودعوتنا الى الدولة الحضارية الحديثة تتضمن احياء مبدأ المواطنة بمفهومه الحديث والعمل به.