محمد عبد الجبار الشبوط ||
قبل حوالي ١٥ سنة استخدمت العبارة التي جعلتها عنوانا لهذا المقال اي "لكل عصر حداثته" هربا من اصرار بعض الباحثين على ربط موضوع الحداثة باوروبا خلال ال ٥٠٠ سنة الاخيرة وكأن الحداثة امر يخص اوروبا فقط. وهذا ما لا اؤمن به ولا اقول به لاعتقادي بأن الحضارة الانسانية كل متصل منذ ان اعلن الله جعل الانسان خليفة له في الارض. في البداية كان جدنا الاول انسانا "بدائيا لا يدري اين سوأته" كما اخبرني السيد محمد باقر الصدر ذات يوم حين التقيته في النجف بصحبة الشهيد عبد السادة عبد الله. واتوقع ان السيد الصدر كان يستوحي في قوله هذا الاية القرآنية الكريمة التي تقول:"فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ". وفهمي لهذه الاية انها تتحدث عن الانسان وهو في اشد حالات بدائيته وهو يعيش في الغابات ويأكل مما يجمعه من الثمار قبل ان يكتشف الزراعة. ومنذ ذلك الوقت المبكر بدأت عناصر المركب الحضاري بالتكون. فهاهو العنصر الاول اي الانسان قد وجد على الارض لتبدأ علاقته بها بوصفها العنصر الثاني في المركب الحضاري ومعهما العلم الاولي البسيط الذي اشار اليه القرآن بقوله:"وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا" مقترنا بممارساته العملية الاولى. ومذاك بدأت الحضارة الانسانية. ومذاك بدأ الانسان سلسلة اكتشافاته الطويلة. وكان كل اكتشاف جديد يؤشر الى "حداثة" في عصره اي حقبته الزمنية. وهنا اتحدث عن الحداثة بمعناها اللغوي البسيط اي الحديث المقابل لكلمة القديم. فحينما اكتشف الانسان الزراعة كانت هي حداثة ذلك العصر التي تلاها ظهور القرى الزراعية. وحين قامت دول المدن كانت هي حضارة عصرها. وحين اخترع الانسان الكتابة كانت هي حداثة عصرها. وكان الانبياء كل واحد منهم يمثل حداثة عصر يبني على ما جاء به الانبياء من قبله حذفا او تعديلا او تجديدا حتى ختم امر النبوات برسالة النبي محمد التي كانت ايذانا بعصر جديد في تاريخ الانسانية وتطورها الحضاري. وهكذا وصولا الى العصر الحديث الذي شهد و يشهد طفرات في التحديث والتقدم في مختلف المجالات والاصعدة. وفي كل جديد يضيفه الانسان في مسيرته الحضارية فانه يتجاوز القديم اذا انقضى اوانه او يبني عليه اذا ما كان صالحا لذلك. وهكذا حطم كوبرنيكوس (١٤٧٣ـ١٥٤٣) نظرتنا حول مركزية الارض واستبدلها بمركزية الشمس على مستوى النظام الشمسي. وحطم العلم الحديث النظرة الاغريقية القديمة حول الذرة بل حطم ايضا النظرة الفلسفية القديمة حول المادة. وحطم الفكر السياسي الحديثة فكرة التفويض الالهي في الحكم. وهكذا في بقية المجالات. ففي المسيرة الحضارية هناك تراكمات من جهة وقطوعات من جهة ثانية. وهـذا ما يحصل في الفكر والفلسفة والثقافة والادب والعمارة والفن والسياسة والاجتماع والعلوم والصناعة والزراعة. فنحن هنا بازاء حداثات طولية على امتداد التاريخ الانساني وحداثات افقية على اتساع الارض وهي حداثات شاركت فيها مختلف القارات بشعوبها المختلفة خاصة القديمة منها واقصد اسيا واوروبا وبدرجة اقل افريقيا ثم دخلت القارة الاميركية على الخط الحضاري بعد ان تم اكتشافها في عام ١٤٩٢.
لسنا مضطرين اذا الى فهم و الاستسلام الى فكرة الحداثة في اطار المركزية الاوروبية لأن المسألة برمتها ظاهرة انسانية حضارية تمثل ثمرة الاشتغال الانساني العقلي والتجريبي في التاريخ. بل لو نظرنا الى الحداثة الاوروبية الحديثة لوجدناها احدى ثمرات الاشتغال الحضاري العربي الاسلامي في الاندلس وقبلها بغداد التي يعود اليها فضل اكتشاف ارسطو وافلاطون والفلسفة اليونانية.