لا تقوم الدولة الحضارية الحديثة الا بمنظومة القيم الحافة بالمركب الحضاري من جهة، وبالحداثة من جهة ثانية. ومن هنا جاء وصف الدولة بانها "حضارية" و "حديثة". والحديثة المنبثقة من الحداثة صفة نسبية، تتغير من زمن الى زمن. ولهذا اقول ان لكل عصر حداثته. والجمود على حداثة عصر ما يوقف الحركة الاجتماعية. ولهذا يشكل التجاوز عنصرا مهما في صناعة الحداثة، فليس هناك حداثة تحرّم التجاوز. تتحقق الحداثة بثلاثة امور: العقل والحرية والعلم. وبدون هذه الامور لا تتحقق الحداثة. العقل اساس العقلانية، والعقلانية نقيض الخرافة، والتقليد الاعمى وعبادة الشخصية. و العقل هو اداة التفكر والبحث والاكتشاف والابداع والانجاز والتفكر والفهم الصحيح. ولا يتحقق التقدم بدون اعمال العقل، وبدون تحرير العقل من الاغلال. والحرية امر متعلق بالارادة، وهي نقيض العبودية والاستبداد. لا تتحقق الحداثة في مجتمع تحكمه الخرافة باشكالها المختلفة، ويتصف بالعبودية الطوعية، كما يقول ايتيان دو لا بويسي. والعلم يتحقق بثلاثة امور هي: الوحي والعقل والتجربة. والوحي يفتح الطريق امام العقل والتجربة، ولا يقف حائلا امامهما، كما في قوله تعالى:"قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ"، وقوله:"سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ"، وقوله:"وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا"، وقوله:"وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ". والوحي مصدر اساسي للقيم العليا الحافة بالمركب الحضاري. ولكن ماذا يفعل الذي لا يؤمن بالله؟ لا يهمني ذلك ما دام يتفاعل بايجابية مع منظومة القيم الحضارية العليا. فالمهم هو "العنب وليس الناطور" كما يقول المثل اللبناني. والعلم في تاريخ البشري ظاهرة تراكمية. والمراكمة تحصل بالتجربة المستمرة، و بتصحيح الاخطاء العلمية على اساس التجارب الجديدة. حيث "لا يمكن للعقل العلمي، كما يقول غاستون باشلار، ان يتكون الا وهو يحطّم العقل غير العلمي". والعلم هو جوهر الحداثة. ولكي تكون الدولة حديثة فيجب ان تبنى على اساس العلم: العلم السياسي والعلم الاقتصادي والعلم الاجتماعي والعلم التربوي الخ. وكل من حاول "تحديث" دولته بدأ بالعلم. والمحاولة تنجح او تفشل تبعا لتوفر شروطها ومناخها، وفي مقدمة شروطها العقل والحرية. فلا يمكن ان تنجح محاولات التحديث العلمية في مجتمع الخرافة والعبودية والاستبداد. العقلانية والحرية شرطا العلم. وفيما يتعلق ببناء الدولة، يجسد الاستقلالُ الحريةَ، اذْ بدونه لا تنجح محاولات تحديث الدولة. تفشل عمليات التحديث في المجتمعات المصابة بالقابلية على الاستعمار كما يقول مالك بن نبي. والمدرسة حصن العلم. والدولة الحضارية الحديثة تضع المدرسة في قمة اولوياتها، حيث لا يمكن تنشئة جيل عالم مسلح بالمعرفة وحب العلم دون ان تغرس المدرسة في نفوس ابناء المجتمع هذه الفضائل المتعلقة بالعلم. ولهذا اهتم كل من تصدى لبناء الدولة على اسس علمية سليمة لانشاء المدارس القادرة على تحقيق ذلك، منذ حمورابي، وربما قبله، الى العصر الحديث، مرورا بالاسلام والثورة الفرنسية. ومن هنا دعواتي المتكررة الى انشاء المدارس الحضارية الحديثة في العراق، والى ضرورة ان تتولى الدولة هذه المسألة، واذا تلكأت الدولة في ذلك وتعذر عليها تحمل اعباء هذه المسؤولية، انتقل الواجب الى اهل القدرة المالية والمعرفية من ابناء المجتمع وذلك بانشاء المدارس الاهلية غير الربحية على اساس النظام التربوي الحضاري الحديث. واقولها بما يشبه التحذير، من ان المجتمع او الدولة اذا تلكأ اي منهما او كلاهما في الاخذ بالحداثة فان المجتمع والدولة سوف ينحدران في وادي التخلف الحضاري السحيق ويفشلان في اقامة حياة طيبة سعيدة للانسان في الجيل الحاضر وفي الاجيال القادمة.
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha