ضحى الخالدي ||
تقع قمة إلبروس ذلك البركان الخامد، على الحدود الجورجية، ضمن سلسلة جبال القوقاز في روسيا الاتحادية ، وتعد أعلى قمة جبلية في روسيا، وفي أوروبا، والعاشرة على مستوى العالم من حيث الارتفاع.
وقيل قديماً، إن لكل امرئٍ من اسمه نصيب، فكيف حين يكون الاسم اسم جبل لا يتزحزح، ولا يهتز؟!
بعد أن قضى الذئب الرمادي القوقازي ثلاث سنوات وزيراً مفوّضاً في سفارة جمهورية روسيا الاتحادية في دمشق، في فترة شاقة من الصراع الكوني الأعنف على الأرض السورية، شدّ رحاله الى بغداد سفيراً خلفاً لسلفه مكسيم مكسيموف.
إلبروس كوتراشيف الروسي المسلم الشيشاني الأصل، ذلك الذئب الرمادي القوقازي العنيد يعود الى العراق حيث بدايات انخراطه في العمل الدبلوماسي، ومسقط رأس ولده البكر في نهايات تسعينيات القرن الماضي، فيغير ديكور صالة الاستقبال في السفارة الروسية من أريكتين متجاورتين توحيان بالألفة والتناظر، الى أريكتين متقابلتين يتوسطهما كرسي منفرد خُصّص لجلوسه دون كرسي نظير يجاوره، ليوحي بالقيادة والتسلط والقوة.
ذَلِكَ الشاب الشاحب في متوسط العمر، الهادئ ذي ابتسامة الألف معنى، والعربية السليمة باللهجة الشامية، وبخبرته وبصمته في الملف السوري، وقبضته الحديدية على هذا الملف، ينتقل بأمر من موسكو الى بغداد، ليؤذن القيصر الصغير الكبير (بوتين) ببداية مرحلة جديدة من الصراع الدولي، ويعيد رسم خرائط المصالح الجيواستراتيجية لروسيا الاتحادية على أساس إعادة ترتيب الأوراق، وتحديد الأولويات.
اليوم، ولا أقصد هذا اليوم بالذات، تقتحم روسيا الملف العراقي، وترمي بثقلها على توازنات المنطقة والعالم في العراق، بعد استقرار الملف السوري.
روسيا ذلك الحليف السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي العتيد للعراق، يعلن عن مخاض جديد للمنطقة بكل ما يترتب عليه من آلام وأثمان، لولادة المشروع العالمي الجديد الذي يلعب فيه الشرق بمحوريه الصيني والروسي، الدور الأبرز.
روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوڤييتي ذي التناقضات الأبرز بين كونه أول دولة تعترف بالكيان الصهيوني كدولة، وبين كونه الداعم الأبرز للمعسكر العربي في حروبه ضد هذا الكيان، والذي قامت العديد من الجيوش العربية الناجحة على أساس عقيدته العسكرية (العقيدة الروسية)، وكان معظم تسليحها روسياً، وغالبية مستشاريها العسكريين من الخبراء الروس.
لم تعد المصالح النفطية والبعثات الدراسية الخجولة الى روسيا هي الثيمة المميزة لطبيعة العلاقات الروسية- العراقية بعد ٢٠٠٣، فدبابات T90 التي شاهدناها عياناً في استعراض الحشد الشعبي تمثل علامة فارقة في تغير توازن الردع الإستراتيحي تجاه الڤيتو الأميركي والرفض الإسرائيلي لتزويد حلفاء موسكو من أعداء تل أبيب وواشنطن بالأسلحة الروسية المتطورة، أو السماح باستخدامها، علامة فارقة شبيهة باستخدام راجمات توسوتشكا 1 (TOS 1) رغم الڤيتو الأميركي.
تمثل روسيا دولة متقدمة في مجال العلوم والتكنولوجيا لا سيما (الاتصالات والمعلوماتية!!)
وقوة عظمى فاعلة في مجلس الأمن استطاعت رفع كف الڤيتو بوجه كثير من العقوبات التي حاولت أميركا والغرب تمريرها في المجلس ضد سوريا دون جدوى، مما اضطر الأطراف الأخيرة الى التماس العقوبات الموسّعة أحادية الجانب تجاه سوريا، والدول والشركات والكيانات التي تتعامل مع النظام السوري الحاكم.
من المؤكد أن الدول العظمى لا تقدم الهدايا، ولا توزع الهِبات مجاناً؛ لكن للكبار لغتهم الخاصة بالتفاهم في ساحات الصراع، خصوصاً مع دخول الصين على الخط.
العراق مركز العالم، وبؤرة التضاد والصراع، لأنه نقطة التقاء المصالح الكبرى، وكل مقاربة للوضع العراقي بمعزل عن المؤثرات الإقليمية والدولية هي مقاربة خاطئة.
في زمن الانحسار والوهن الأميركي رغم أنها لا تزال دولة كبرى، لم يعد كافياً الاتكّاء عليها وعلى ست دول أعضاء في مجلس الأمن من ضمن مجموعة الخمس عشرة؛ لا بد من التوازن، وتخفيف الضغط المسلّط باتجاه واحد، عبر فتح الأبواب المغلقة تجاه الشرق الذي استعاد شبابه بحيوية لافتة، ليرسم ملامح جديدة للمنطقة في إطار تكاملي من المصالح المتبادلة واحترام السيادة والحفاظ على الوحدة والاستقرار تارةً، والضغط والتنفيس تارةً أخرى، على العكس من السياسة الأميركية التي أصبحت علامة فارقة لا تتعلق بحقبة ترامب فقط، ألا وهي سياسة الضغوط القصوى، هذه الضغوط التي أصابت قبضة واشنطن بالتشنج، فارتخت بتأثير ترنح عمودها الفقري (وبداخله) نخاعها الشوكي المصاب إصابةً بالغة.
في أثناء ذلك كله ينشغل حائك السجاد بعمله الدؤوب منتظراً ما ستؤول إليه نتائج الثنائية الروسية- الصينية في العراق، ليقدّم معروضاته الفاخرة من المنسوجات والسجاد العتيق والزعفران والفستق لتأثيث خيمة المرحلة الجديدة في المنطقة بأسرها، على شواطئ ثغر الخليج الباسم، ودرّته الأغلى، امتداداً الى عروس البحر الأبيض المتوسط.
ثنائية لن تكون دون إرادة محلية، وإلا فدون ذلك موقف المتفرج، حتى يستقر النرد أمام أحد الأرقام؛ اليوم، أو غداً، لا بد للنرد أن يستقر، وبورصة المواقف مفتوحة لأعلى سعر.